في معرض شيكاغو العالمي.كان النور بالمدينة هو إعلان انتصار (تيسلا) بالتيار المتردد..على توماس إديسون “إمبراطور الاختراعات”بتياره المستمر.

في عام 1884، رست سفينة في ميناء نيويورك، ونزل منها شاب صربي، نحيل، وأنيق المظهر رغم أن جيوبه كانت شبه فارغة، لا تحتوي إلا على رسالة توصية واحدة موجهة إلى “إمبراطور الاختراعات” في ذلك الزمان. كان الشاب هو نيكولا تيسلا، وكانت الرسالة موجهة إلى توماس إديسون. كتب فيها أحد أصدقاء إديسون جملة تاريخية: “أعرف رجلين عظيمين في هذا العالم، أنت أحدهما، وهذا الشاب هو الآخر”.

بدأت القصة كتعاون واعد. وظّف إديسون الشاب العبقري لإصلاح مولداته المعطلة. كان إديسون رجلاً عملياً، رجل أعمال لا يهتم بالنظريات الرياضية المعقدة، بل بما يمكن بيعه فوراً. أما تيسلا، فكان يحلق في المستقبل، يؤمن بأن نظام إديسون للطاقة (التيار المستمر DC) هو نظام بدائي ومكلف، لأنه يتطلب بناء محطة توليد كل ميل واحد، وأسلاكاً نحاسية بسمك الذراع. اقترح تيسلا البديل السحري: “التيار المتردد” (AC)، الذي يمكنه نقل الكهرباء لمئات الأميال عبر أسلاك رفيعة، لإضاءة المدن البعيدة بكلفة زهيدة.

سخر إديسون من الفكرة، واعتبرها “خطيرة وغير عملية”. وحين نجح تيسلا في تحسين مولدات إديسون بشكل مذهل، وطالب بالمكافأة الموعودة (50 ألف دولار)، ضحك إديسون وقال له ببرود: “أنت لا تفهم المزاح الأمريكي يا تيسلا”. في تلك اللحظة، تمزق الخيط الرفيع بينهما. استقال تيسلا فوراً، ليجد نفسه يحفر الخنادق في شوارع نيويورك ليبقى على قيد الحياة، بينما عقله يضج بمعادلات ستغير العالم.

لكن التاريخ لا يترك العباقرة في الحفر طويلاً. اشترى رجل الأعمال المغامر جورج ويستينغهاوس براءات اختراع تيسلا، وأعلن الحرب على إمبراطورية إديسون. هنا، تحول الصراع العلمي إلى “حرب التيارات” القذرة. أدرك إديسون أن “التيار المتردد” لتيسلا هو الأفضل والأرخص، وأنه سيفلس شركتة (General Electric) إذا انتشر. ولأنه لم يستطع هزيمة تيسلا بالمنطق، قرر هزيمته بـ “الخوف”.

أطلق إديسون حملة تشويه إعلامية مرعبة. زعم أن تيار تيسلا “قاتل”. ولإثبات ذلك، بدأ رجاله يدفعون الأموال للأطفال لاصطياد القطط والكلاب الضالة، ثم يقومون بصعقها علناً بتيار تيسلا أمام الصحافة ليقولوا: “انظروا، هذا ما سيحدث لكم في منازلكم!”. وصلت الوحشية ذروتها حين ساهم إديسون سراً في اختراع “الكرسي الكهربائي” لتنفيذ أحكام الإعدام، مستخدماً تيار تيسلا، فقط ليربط اسم منافسه بالموت في أذهان الناس، واصفاً عملية الإعدام بأن المجرم قد تم “ويستينغهاوسه” (Westinghoused).

رد تيسلا كان “بالسحر”. كان يرتدي معطفه الأنيق ويقف أمام الجماهير المذهولة، ممرراً تياراً كهربائياً بملايين الفولتات عبر جسده ليضيء مصباحاً يمسكه بيده، وكأنه ساحر يروض الصاعقة، مثبتاً أن تياره آمن إذا تم التعامل معه بعلم، وأن المستقبل لا يُبنى بالخوف.

وجاءت المعركة الفاصلة في عام 1893، في “معرض شيكاغو العالمي”. تنافس الطرفان لإضاءة “المدينة البيضاء”. فاز تيسلا وويستينغهاوس بالعقد لأنهما كانا الأرخص والأكثر كفاءة. وفي ليلة الافتتاح، ضغط الرئيس الأمريكي الزر، لتشتعل مئات الآلاف من المصابيح دفعة واحدة بنور تيسلا الساطعة، في مشهد لم ترَ البشرية مثله من قبل. كان ذلك النور هو إعلان انتصار التيار المتردد.توج الانتصار لاحقاً حين كسب تيسلا عقد بناء محطة شلالات نياجرا، أول محطة كهرومائية عملاقة في التاريخ، والتي أوصلت الكهرباء لمدينة “بافالو” البعيدة، محققة حلم تيسلا بنقل الطاقة لمسافات هائلة.

انتهت الحرب بانتصار ساحق لرؤية تيسلا. فالعالم اليوم، من الثلاجة في منزلك إلى المصانع العملاقة، يعمل بنظام التيار المتردد. لكن المفارقة التراجيدية تكمن في المصائر الشخصية. فقد مات إديسون ثرياً ومشهوراً محاطاً بالمجد، بينما مات تيسلا وحيداً وفقيراً في غرفة فندق بنيويورك، يطعم الحمام، بعد أن مزق عقد “حقوق الملكية” مع ويستينغهاوس لإنقاذ صديقه من الإفلاس، متخلياً عن ثروة كانت ستجعله من أغنى الرجال في التاريخ، مكتفياً بكونه الرجل الذي “اخترع القرن العشرين” وأهداه للبشرية مجاناً.

ورغم أن تيسلا كسب معركة “الشبكات العملاقة” وأضاء المدن، إلا أن التاريخ أبى إلا أن يمنح إديسون “انتصارا خاصا” ومؤجلاً في عصرنا الرقمي الحالي. فاليوم، بينما يقطع تيار تيسلا المتردد المسافات الطويلة عبر الكابلات ليصل إلى مقابس جدراننا، يعود تيار إديسون المستمر (DC) ليكون سيد الموقف بمجرد أن يخرج من الحائط. فكل هاتف ذكي في جيوبنا، وكل حاسوب محمول، وكل سيارة كهربائية، وحتى مزارع الطاقة الشمسية الحديثة، تعتمد في جوهرها على البطاريات والرقائق الإلكترونية التي لا تعمل إلا بلغة التيار المستمر. وهكذا، انتهت الحرب الطويلة ليس بإلغاء أحدهما للآخر، بل بـ “هدنة تكنولوجية” فرضها التطور، حيث يتولى تيسلا مهمة “نقل” الطاقة إلينا، ليتلقاها إديسون ويتولى مهمة “تخزينها وتشغيل” حياتنا الرقمية الدقيقة، ليتقاسم العبقريان في النهاية حكم العالم، كلٌ في ملعبه.

أخر المقالات

منكم وإليكم