علي السعدون وفرات إسبر..عندما يُصْبحُ الشِّعرُ نَذرًا
علي السعدون وفرات
وللقراءة : عندما يُصْبحُ الشِّعرُ نَذرًا
-
فرات إسبر
شكرا جزيلا الاستاذ العزيز علي السعدون .
في العدد الجديد من مجلة الأقلام : عندما يصبح الشعر نذرا
من جبلة، التي تاجُها البحر ووسامُها الموج، مدينة ٌ ، كانت تعج ُ بالحياة، قبل أن يحجّ إليها الطاعون والدود.
البحر يمدّ قدميه ويتّسع في الشتاء حتى يصل عتبات البيوت.
كان جارًا وصديقًا.
لم أنعم بجيرته طويلًا، لكنني أذكرهُ في ليالي كانون، حين كان يغضب في الليل ويهدر،
وأنا أنام على “صوفا” صغيرة،
ووسائد متفرقة، وأوراق وكتبٌ أضعها تحت رأسي وأكتب .
وبما أنني عشت بلا ذكرى وسأنتهي بلا ذكرى، قررت أن أقدم نذوري للبحر وللناس، وأهدي ما أحبُّ وأملكُ للزمان .
قد يقلب أحدهم الصفحات ويهتف:
أيها البحر، لماذا تركتها وحيدة؟
أيها الموج العالي، لماذا لم تتمسك بشعرها الطويل الذي يشبه ظلامك؟
وتهجرني الدنيا، وأنا أختبئ من الخوف في حضن الزمان.
أشعر بغيبوبة العالم تحط على رأسي. يشوشني القلق والفراغ. لا متعة في هذا العالم. أو ربما هناك، لكنني لم أتذوقها إلا في الفواكه التي أحبها.
صديقتي تُهديني الرُمّان، وأحدثها عنه، وأقول لها: إنه من فواكه الجنّة ، ونضحك. أقول:
لن نتذوقه إلا على الأرض ، ونضحك….
أيها الرُمّان كم طعمك لذيذٌ،ولونك بديع ! إنك كالشّعرِ تمامًا، تغذي الروح وتهذبها.
أنا مدينة لك بالرثاء والمديح، لأنني تذوقتك في حلاوتك، وحموضتك، وذاب في يدي حبّي لك، كما أذوب في قصيدة.
تعددت النذور وتنوعت أشكالها.
مريمُ نذرتْ للرَّحمن صومًا، فكان لنا سحرُ هذا النذرِ في اكتشاف نبي اسمه ُ عيسى، ينطق في مهدهِ ، وما هو بشاعر.
علّمنا الحب والاتساع، وفتح لنا شهية الشغف لمعنى النذر .
ومريم تهز بجذع النخلة” فيتساقط رطبًا جنيًّا “.
في غمرة الجمال تسحرُنا لغة الخطاب .
أشعر أن الله كتبَ أولى قصائده في جسد العذراء، وحباها من حبر روحه قصيدة الأبد: “يسوع”.
أسمع أمي ترددُّ بصوتها سورة مريم. أذكرها ولا أنسى ،ما كان يدفعني إلى ألا أتذكر .
لم تكن تخصني بحبها. لقد فتحت في صدري جرحًا، وعبأته بالملح
وإلى اليوم أحاول أن أقشّر الجرح .ابتعدنا وما تزال بعض الحُجب بيننا ،
أحاول إزاحتها بأصابعي التي كتبت بها مئات القصائد، التي نذرتها للريح والماء .
أمزق الأوراق وأرميها في البحر وفي النهر.
ربما عاشقٌ لقصاصات الورق القديم أو مهاجرٌ غريب، يلتقطها ويتهجّى ما بها من أحزان .
وفيةٌ أنا لصديقي القديم، الورق .
أحنّ إلى ماضٍ كنت أقرأ فيه كثيرًا، واليوم أقل .دخلت التكنولوجيا لتدمّر الصداقات القديمة.
ولتقطعَ ما يربط الأنفاس بالأنفاس،على ورق مقوى وحبر عتيق،كان ذات يوم ٍ يبكي كما أبكي أنا الآن .
أبكي وأتذكر لماذا لا أستطيع أن أعيدَ الخضرة إلى الشجرة التي زرعتها لأمي.
أشعربعطش الشجرة وأسقيها ، كنتُ مثل صحراء في حبها لي وكنت نهرًا في حبي لها وما زلت إلى اليوم أنذرُ النذور من أجل حبها .
النذور نعلّقها على شروط وأحكام،
لكنني أطلقها من معناها الشرعي واللفظي، وأتركها ضمن مفهوميّ الخاص،
للمطلق الذي يعلو على الواجب والالتزام والرهان .
النذور تجعلُ الجسدَ واحة ً، ومن العقل مرآة ً.
لقد رأيت الصورة الحقيقية لغياب الورق،على شاشات تنقرها الأصابع ،
بينما العناق الشهيُّ بين الإبهام والسبابة لاحتضان قلم رفيعٍ ينسابُ بحبرين:
حبر شغف الكتابة، وحبر الاختراع المقدّس .
وأتذكّرمخترع الورق، صاحب أجمل هدية قُدّمت للبشرية:
“تساي لون “
الصيني العظيم، الذي كان – كما تذكر كتب التاريخ – خصيًا ،لكني لا أصدقهم .
من اخترع الورقَ فكل البشرية أولاده، وكل التاريخ الذي سُجّل على الورق ، أحفاده ُ.
ويموت “تساي لون” ميتةً أنيقة بعد أن انكشفَ عيبهُ بأنه خصيّ،
فيرتدي أجمل ثيابه، ويشربُ السم، ويموت.
من لحاء الأشجار يُصنع الورق،ونكتب بدم ِالشجرة وعلى جسدها ،
نؤرخ لحياتنا التي لا معنى لها أمام اختراع بهيّ، يموت صاحبه بلا أية قيمة .
ومن أجل ورق “تساي لوي “، وشرْبه للسم، قررت أن أكتب على الورق،
لعلّي أستعيد لحاء العلاقة بيني وبين أمي، فنحن شجرتان :
أنا منها وهي ليست مني ، كاللحاء أخرج منها وأنفصل عنها .
وتتطاير الأيام كالأوراق التي جاءت مع الفتح الأسلامي إلى بغداد ودمشق ونذرت للورق المتطايركل أسراري
وأن أهديها لكل حامل ِكتابٍ ورقي ،بعض الناس يظن ُ أن زمنهُ انتهى في عصر الرقمنة.
أيتها الأحلام الساخنة:
يا من كنتِ تذوبين مع الحبر والدمع والأقلام والأوراق،والتشتت والتمزق والتفرق ،
ها أنت اليوم في قفص ألكتروني ، أنفاسك معدن ٌ وملمسك أسلاك واهتزازات في الصوت .
الصوت الذي فقدناه ،الصوت الذي، كنا نردده في الوديان ، ها هو اليوم يرنُ في آلة تتحدث كالجثة ، كعظم ِ مكسورٍ في جمجمة .
سأحاربكِ أيتها الآلة بنذوري ، وأمنحها لمن يستحق .
نذرت ديواني الشعري الخامس “تحت شجرة بوذا “
لأي مسافرٍ أو عابر ٍفي طريق يقرأ كتابًا ورقيًا. وفي مطار رفيق الحريري
أَوفيتُ النذرَ لشابٍ سوريّ لم ينهِ الثانوية العامة، من حمص – حيث كانت الحرب تشتعل .
كان مع أمه في المطار. تحدّثنا عن الحرب والدمار والهجرات،
ولأنني بلا حجابٍ و وأمه محجبة، كانوا حذرين؛ فقد أكون من أهل السلطة،
وأنا لا أهل لي فيها .
أهديته ديوان “تحت شجرة بوذا”، لأنه صغير ويحب الشعر، ويقرأه كما قال لي .
ودّعته، ولا أعرفه. لوّحنا كثيرًا .
هو اتجه إلى بوابة قريبة ٍ، وأنا إلى بوابة بعيدة .
هذه هي أقدار السوريين، الذين فرّقتهم الحرب والدنيا . ابتعدنا وفي قلب كل منا جرح لا يفهمهُ.
ربما ديوان ” تحت شجرة بوذا” اليوم بيد شاعرٍ يحب الشّعر، أو بيدِ عالم ٍلا يحب الشعر.ِأو بيد ِمقاتل ثوري – لم يقرأه – يقاتل في شوارع حمص .
وفي صالة الانتظار الأخيرة،كان المسافرون ينتظرون ، كلُّ واحد إلى جهةِ غيابٍ ،
قد يهواها أولا يهواها وأنا على يقين بأنني الأكثربعدأ بينهم .
أجول النظر في صالات الانتظار،المشهد مرعبٌ .لا مسافرٌ يحييّ مسافرا ً ولا وداع ولا تلويحة .
كنت وحدي وغريبة.
وحدي، أقصّ على نفسي وأهمس لها بالسفر وبالعسل، والهجرة من بلاد لا خيط حريرٍ لي فيها، ولا كيسًا من قش.
كلُّ من حولي غارق في هاتفه المحمول على صفحات التواصل الأجتماعي وعدد المسافرين يتجاوز المئة .
أتفحّصُ الوجوهَ وأقرأ ُ معانيها . لم يعد هناك وجوه ٌ تنظرُ إلى السماء . كلها
تنحني على جهاز صغير، تعبده ُ وتغرق فيه.
بوذا ، معي في بيروت ، بوذا الذي نذرته ُ لكل عابرِ سبيل ٍ يقرأُ في كتابٍ ورقي.
من بعيد، لمحتُ سيدة صغيرة تقرأ كتابا وقعت عيني عليها من بين عشرات المقاعد ،
اقتربت ُ منها أكثر ،كانت تقرأ في كتاب “النبي” لجبران خليل جبران.
وتقدّمت إليها بكل ثقة، وطلبت منها أن تتقبل نذري!
ضحكت واسَتغربت. تعارفنا، وقبلتِ الديوان بكل حب ٍ.
قلت لها: “هذا الكتاب منذورٌ لكل قارئ ألقاه في طريقي،
بعد أن غاب الكتاب الورقي واختفى واليوم سأوفي نذري وخاصة أنك تقرأين في كتاب ” النبّي” لجبران خليل جبران .
تحدثنا ، وأخبرتني أنها في طريقها إلى كندا،وأنها أمُّ لطفلين تقرأ لهما كلَّ مساءٍ
قصة ً قبل النوم ليدخلا في عالم بلاد العجائب وسحر الورق.
افترقنا بتلويحة وداع، إذ أُعلن عن إقلاع الطائرة المتوجهة إلى نيوزيلندة.
وغاب وجهها عن ذاكرتي، وغاب اسمُ القارئة التي أهديتها “تحت شجرة بوذا”
قربانًا ونذرًا للورق والشعر.
افترقنا …
افترقنا. لا أنا أتذكرها، وربما هي تتذكرني
وهي تقرأ بوذا أو في أ ي كتاب آخر و تقول لقد مرتْ شاعرة
من هنا، ووهَبتْ كتابا لها ، وهبتهُ للسفرالطويل وللحياة القصيرة .
وبين لغةٍ ولغة، يتغيرُ معنى ولفظِ كلمةُ ” النذر ” . لكن يبقى معناها العميق في تجليها بقيمة الشعر.
**********************
المراجع والمصادر:
مواقع إجتماعية- فيس بوك