عام 1904م، وُلد الألماني”جوليوس روبرت أوبنهايمر”.منح البشرية ناراً نووية تضيء المدن،وقد تحولها إلى رماد.

في مدينة نيويورك الصاخبة، عام 1904، وُلد “جوليوس روبرت أوبنهايمر” لعائلة يهودية ثرية من أصل ألماني. لم تكن طفولة روبرت تشبه طفولة أقرانه. فقد نشأ في شقة فارهة تطل على نهر هدسون، مزينة بلوحات لبيكاسو وفان جوخ. كان طفلاً هزيلاً، شاحب الوجه، تلمع في عينيه نظرة ذكاء حاد يمتزج بوحشة الانطواء.

بينما كان الأطفال يلعبون الكرة في الشوارع، كان روبرت غارقاً في كتب الشعر والأدب، وشغوفاً بجمع المعادن والصخور، يراسله علماء الجيولوجيا وهو لم يتجاوز الثانية عشرة ظناً منهم أنه زميل بالغ. لقد كان عقله أكبر من جسده، وروحه أقدم من عمره، يعيش في عزلة العباقرة المبكرة.

انتقل الشاب “أوبي”، كما كان يُلقب، إلى جامعة هارفارد، حيث التهم العلوم والآداب بنهم، ليتخرج بمرتبة الشرف في ثلاث سنوات فقط. لكن طموحه قاده عبر المحيط إلى أوروبا، معقل الفيزياء الحديثة آنذاك. في كامبريدج ببريطانيا، عانى أوبنهايمر من اكتئاب حاد واضطراب نفسي، كاد يودي بمستقبله حين حاول( في لحظة يأس ) تسميم تفاحة لأستاذه.

لكن النجاة جاءت عبر “ميكانيكا الكم”. انتقل إلى جامعة غوتينغن في ألمانيا، وهناك وجد ضالته وسط عمالقة الفيزياء مثل ماكس بورن ونيلز بور. تحول الشاب المكتئب إلى فيزيائي نظري لامع، يتحدث لغة الذرة والنجوم، وسرعان ما عاد إلى أمريكا ليصبح أستاذاً في جامعة بيركلي، حيث سحر طلابه بأسلوبه الفلسفي وعينيه الزرقاوين الحزينتين، وبدأ يبني مدرسة أمريكية للفيزياء النظرية.

في مطلع الأربعينيات، ومع زحف الظل النازي على أوروبا، تغير العالم، وتغير معه أوبنهايمر. اكتشف العلماء أن انشطار ذرة اليورانيوم يمكن أن يولد طاقة هائلة. أدركت الولايات المتحدة الخطر: إذا حصل هتلر على القنبلة أولاً، سينتهي العالم الحر.

وقع الاختيار على أوبنهايمر لقيادة المختبر السري في “مشروع مانهاتن”، رغم ميوله السياسية اليسارية السابقة التي أثارت شكوك الاستخبارات. اختار روبرت هضبة “لوس ألاموس” في صحراء نيو مكسيكو، المكان الذي أحبه في شبابه، ليجمع فيه ألمع عقول الأرض. هناك، وسط الرمال والعزلة، تحول أوبنهايمر من فيزيائي حالم إلى مدير صارم، يقود أوركسترا من العلماء لفك شفرة الطاقة النووية.

في فجر يوم 16 يوليو 1945، وفي منطقة أطلق عليها اسم “ترينيتي” (الثالوث)، حبس العالم أنفاسه. كان أوبنهايمر يقف في مخبأ خرساني، نحيلاً كخيال المآتة، يرتجف توتراً. بدأ العد التنازلي، وفجأة، تحول ليل الصحراء إلى نهار ساطع بضوء لم تشهده الأرض منذ نشأتها.

ارتفعت سحابة الفطر العملاقة، وبينما كان زملاؤه يهللون للنجاح العلمي، تذكر أوبنهايمر سطراً من الكتاب المقدس الهندوسي (الباغافاد غيتا): “أصبحتُ الآن الموت.. مُدمر العوالم”. لقد أدرك في تلك اللحظة أن البشرية قد امتلكت لأول مرة القدرة على إفناء نفسها.

بعد إلقاء القنبلتين على هيروشيما وناجازاكي، وانتهاء الحرب، تحول أوبنهايمر إلى بطل قومي، وظهرت صورته على أغلفة المجلات. لكن صور الضحايا والدمار كانت تطارده. أصبح صوتاً عالياً ينادي بالتحكم الدولي في السلاح النووي، وعارض بشدة تطوير “القنبلة الهيدروجينية” الأكثر فتكاً.

هذا الموقف الأخلاقي جعله هدفاً لأعدائه السياسيين في ذروة “الخوف الأحمر” (المكارثية). في عام 1954، خضع لجلسة استماع مهينة شُكك فيها بولائه لوطنه، وسُحب منه تصريحه الأمني. جُرد “أبو القنبلة” من نفوذه، وعاش ما تبقى من حياته كمنفيّ داخل وطنه، يدير معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، مستغرقاً في الفيزياء والفلسفة.

في عام 1967، توفي روبرت أوبنهايمر بسرطان الحنجرة، حاملاً معه مجد الإنجاز العلمي وثقل الذنب الأخلاقي. لقد كان مثل “بروميثيوس” في الأساطير الإغريقية، الذي سرق النار من الآلهة وأهداها للبشر، فعوقب بالألم الأبدي. إذ منح أوبنهايمر البشرية ناراً نووية يمكنها أن تضيء المدن، أو تحولها إلى رماد.

أخر المقالات

منكم وإليكم