” جبل الأقرع (صفون).. ذاكرة أربعة آلاف عام من الأسطورة والقداسة..السيرة التي صنعت وجه المطر”
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
من يقف على قمة جبل الأقرع اليوم حيث يتلاقى البحر الأزرق بسماء لا تنتهي يشعر بأن الريح تحمل همسات قديمة لا تنتمي لعصرنا. همسات حضارة اودعت هنا منذ أربعة آلاف عام لم يتبقّ منها إلا بقايا جدران حجرية منهارة وألواح مسمارية تتكلم لغة الآلهة والبشر.
هذا الجبل الشامخ صفون لا بد من العودة إليه بين الحين والحين.. الذي لم يكن يومًا مجرد تضاريس صامتة بل كان حارسًا للحدود الطبيعية لمملكة أوغاريت ومرصدًا سماويًا ومسرحًا لملاحم أسطورية لا تزال أصداؤها تتردد في الذاكرة حتى الآن
يقع جبل الأقرع شمال اللاذقية حيث تلتف حوله طبيعة ربّانية ساحرة تدهش الألباب جعلت منه نقطة تقاطع بين الشرق والغرب. فإلى الغرب البحر الذي كان طريقًا للتجارة والرحلات وإلى الشرق السهول الممتدة التي كانت تغذي مملكة أوغاريت بالحبوب والكروم والزيتون..
كان جبل صفون مشرفًا على كل ذلك وكأنه عينٌ مفتوحة للآلهة.
على سفوحه كان إنسان أوغاريت يرى العالم بوضوح:
سفن مملكته القادمة من قبرص محملة بالنحاس الخام..
قوافل الحثيّين الصاعدة من الأناضول
وغيوماً تحمل المطر الذي كان أهالي المنطقة يعدّونه هديّة من الإله بعل.
إنه موقع لم يكن طبيعيًا فقط بل استراتيجيًا وروحيًا في آن واحد.
في ألواح أوغاريت تلك المعجزة الطينية نجد ذكرًا متكررًا لجبل صفون باعتباره مقر الإله بعل سيّد الرعد والبرق والمطر.
كانت الأسطورة تقول:
إن بعل يجلس على عرشه في قمة الجبل يراقب البحر ويطلق سحب الشتاء من فوقه.
ولم يكن هذا الإيمان محليًا فقط فقد انتقلت قداسة الجبل إلى حضارات أخرى:
في النصوص الأكادية يظهر باسم (Ṣapanu).
وفي الميثولوجيا اليونانية الرومانية اندمج مع مفاهيم جبال الأولمب والآلهة العليا.
لقد أصبح جبلًا عالميًا قبل أن يعرف العالم معنى العالمية.
تشير الدراسات إلى أن الكهنة كانوا يصعدون سفوح الجبل لإقامة طقوس خاصة تتعلق بالمطر والخصب.
ولم يكن ذلك غريبًا فالجبل كان مرتبطًا مباشرة بالظواهر الجوية
البروق كانت تنطلق من قمته الشاهقة
الغيوم تتجمع حوله
العواصف تنفجر من ناحيته.
كان سكان أوغاريت يرون في هذه الظواهر رسائل من بعل لا مجرد أحداث طبيعية.
ومن هنا تحوّل الجبل من مكانٍ جغرافي إلى مقام ديني محوري.
بحسب الجغرافيا التاريخية شكّل جبل الأقرع الحد الشمالي الطبيعي لمملكة أوغاريت.
فهو يفصل بين أراضيها الخصبة والساحلية وبين المناطق التي تمتد نحو الأناضول.
كان أشبه ببوابة طبيعية من يسيطر على الجبل يسيطر على طرق التجارة والمرور ويملك رؤية واسعة للساحل.
لم يكن الجبل فقط حارسًا للحدود.
بل كان سجلاً طبيعيًا للأحداث شاهدًا على الحروب والتحالفات والتغيرات الإنسانية التي مرت بالمنطقة.
كم من قصة ضاعت بين شقوق الصخور؟
كم من أسطورة دفنتها الرياح؟..
كم من قوافل عبرت ثم اختفت آثارها؟
على هذا الجبل عاش صيادون ومزارعون وكهنة ورحّالة ولكل منهم حكاية.
هناك أساطير لم تُدوّن وبقايا طقوس لم تُثبت بالدليل لكن الجبل احتفظ بها في ذاكرته الصامتة.
إنه تراث ميراثي ليس لمدينة أوغاريت وحدها بل لكل المشرق القديم.
رغم مرور آلاف السنين لا يزال الجبل يحتفظ بقدسيته الطبيعية.
فالناظر من قمته يشعر بامتداد التاريخ وكأن الزمن لم يمر.
وما زال الباحثون حتى اليوم يكتشفون ارتباطًا بين الجبل والأساطير القديمة ويعيدون قراءة النصوص الأوغاريتية لفهم دوره بدقة أكبر.
صفون لم يفقد روحه
إنه لا يزال يروي قصصه لمن يفهم لغته.
جبل صفون..الجبل الذي نحبّه
ليس مجرد قمة صخرية تطل على البحر بل متحفًا طبيعيًا مفتوحًا يحمل في صدره أربعة آلاف عام من القداسة والهوية والذاكرة.
إنه كتاب لم تُقرأ كل صفحاته بعد..
ينتظر من يعيد سرد حكاياته المفقودة التي لم تروى بعد
سرد تاريخي
“””””””””””””””””””
عاشق أوغاريت – غسان القيّم


