طائرة صالح الرفاعي التي عبرت سماء بيروت لكنها لم تهبط.- بقلم فريد ظفور
طائرة صالح الرفاعي التي عبرت
مدخل منذ اكتشف الإنسان القديم ظلال الأشجار والوحوش
والحيوانات في فتحات كهفه مرورا بالقمرة المظلمة عند أرسطو وابن الهيثم.. وحتى ولادة الفن الضوئي من خاصرة الرياضيات والفيزياء والكيمياء… مرورا بعصر اللون الأحادي فالملون وحتى العصر الرقمي والأنترنت وعصر تصوير الديجيتال بالكاميرات او بالأجهزة الذكية حتى غدا عصرنا. عصر الصورة.. ناهيك عن انبثاق المدارس والمذاهب التشكيلية وبعدها الفنون الفوتوغرافية الثابتة والمتحركة، وهكذا تأثر الفن الضوئي وتربي وترعرع في كنف الفنون السبعة ولاسيما الفن التشكيلي.. فبدانا نجد مدارس ومذاهب فوتو ضوئية. كما السريالية والداداية والتكعيبية ومن ثم الفن المفاهيمي والكولاج والديجيتال ارت وصولا لفن الهايكو.
ندلف للقول بأننا الآن في محراب عمل فني مركب للأستاذ والبرفسور صالح الرفاعي.
آخر عمالقة اللون الأحادي الكلاسيكي في العصر الحديث الرقمي.. وقد تقلد مناصب وأعمال عدة.. في الصحافة خاض بكاميراته جل الحروب والصراعات اللبنانية وترأس تحرير مجلة فن التصوير الضوئي الورقية اللبنانية طيلة صدورها في ثمانينات القرن الماضي.. وما زال يعمل مدرساً لمادة التصوير الضوئي في الجامعة اللبنانية.. ناهيك عن علاقاته الجميلة مع الفنانين التشكيلين والأدباء.
الفن الضوئي عند الرفاعي تجاوز دائم الحدود الإبداع واللحظة الراهنة المبدعة لا تكرر ماضيها تستلهمه ولا تعيشه ولعل تكوين ومعمارية الصورة الرفاعية تقوم في هيكلها وتشكيلها العام على أدوات قديمة في الإيقاع والتدرجات اللونية الأحادية والطيفة السبعة. وهذه المعمارية معجزة لأنه بأدواته القديمة كلها يكتب قصيدة ضوئية معاصرا الفن الرقمي. والا ما الحداثة الفوتوغرافية سوى أن يقف المصور فيلتحم هذا الالتحام بمعاصريه. ويهزهم هذا عنيفاً. ولا يذكرهم فقط بقديمهم. وإنما يردهم لمعرفة الحاضر ويدفعهم إلى المستقبل.
فهل الحداثة الضوئية أن يصور ويتحدث الفنان عن قضايا العصر والأمة بلغة القدماء.. وهل الحداثة الضوئية مضمون فقط. إنها الفوتوغرافية الكلاسيكية الجديدة مضمون جديد في شكل قديم. لكن التكوين أو الشكل عند الفنان صالح ليس إطارا أبديا وليس مجرد اطار وتكوين ضوئي بتدرجاته الرمادية واللونية بإيقاع ثابت الأضلاع والزوايا…
والرفاعي لا يفرق هنا بين اللغة الضوئية كشكل أو تکوین اطار داخلي وبين نمطية التعبير كبنية داخلية حيوية متطورة. فالصورة الرقمية الحديثة لا تتنكر للغة اللامس في إطارها الخارجي. لكنها لا تجعل لغة الأمس تعبير اليوم.
ولعل عدم التفريق بين الصورة كينيان وتشكيل وتكوين بصري وبين النمطية التعبيرية كفن ضوئي إبداعي. وهذا جعل الكلاسيكية ذات بنية معجمية محنطة التكوينات والمفردات والدلالات والرموز التعبيرية مع ملاحظة أن أي مصور كلاسيكي مهما كان عملاقا في تفكيره وتعبيره وأدواته سيضيع في
التكرار والصنعة الشكلية التقليدية والحشو الفارغ.. إلا أن الرفاعي كان له منهج ومسار مختلف انقذه من الوقوع في ذلك الفخ.
فالرفاعي يحدثنا عن ولادة صورة الطيارة التي تحمل شباب وطنه الذين عزموا الرحيل من الوطن هربا من الجوع والفقر ومن أتون الحروب، ولعله وهو الأستاذ المخضرم يدرك ماذا يعمل.. فقد ترك خاتم اسمه بالزاوية اليسرى لتكون مفتاح قراءتنا الصورة التي بدأها بالشابين اليافعين وهما ينظران إلى الطائرة مستغربين حائرين مودعين أخوتهم المسافرين على متن الطيارة. وقد كان للفنان رؤية تكونية خاصة بحيث كان المكان بالأبيض والأسود وبين ركام وجدا وبناء مهجور أو لنقل بانها غرف الصفيح مكان إقامة الفقراء والمعوذين وهي المنتشرة بكل بقاع الدنيا،
ومنها العاصمة الفرنسية باريس. ثم يأخذنا برحلة اكتشاف نحو الأبنية الشاهقة.. حيث يقطن الأغنياء والميسورين الحال. وقد استعمل طوفان المياه ليدلنا بان أمور غريبه قادمة من المجهول سوف تحصد الأخضر واليابس بالمدينة.. مبررا سبب هروب وهجرة كوادر وشباب البلد إلى بلاد العم سام أو إلى الأمريكيتين. ولا يفوتنا التنويه بان مسحة من اللون السماوي الممزوج باللون الأبيض قد ساد وغطى خلفيه الصورة. ليتركنا حياري باستحالة مرور الطائرة من فوق العاصمة بيروت والترابط بين المدينة العريقة والبيوت الفقيرة لنفك رموز وتكوينات عمله الذي ينتمي لفن الكولاج والارت ديجتال.. واننا لا ندعي الاحاطة ولا الشمولية،
ولكنه يمكن ان يعد خطوة مبدئية في سبيل تقديم قراءة ودراسة لعمل يجمع بين الأصالة والحداثة والقديم والتكوين الذي شكله الرفاعي هو عمل يقدم لنا فرصة لمغامرة تذوق جمالي خالص من خلال مفردات ورموز إبداعية محلقة في عالم الكشف والإدهاش الفني الرقمي.
وختاماً لعل فارس الضوء الفنان صالح الرفاعي قد أتقن فن الغوص في العالم الرقمي مؤكداً أصالته وعبقريته منذ زمن التصوير الصحفي الأحادي اللون والملون ومن ثم التصوير الرقمي. وعلاوة على كل هذا يمكن للفن الحديث استيعاب الفرار إلى اللاواقع وأن يشتمل الخيال البعيد عن المعقول وعن انغلاق اللغة البصرية واللونية. ويمكن استيعاب كل هذا كمحاولة تقوم بها النفس البشرية الفنانة والمعاصرة من أجل
الاحتفاظ بحريتها في زمن واقع تحت سيطرة التقنية
الرقمية والألية والتجارية أي أنها محاولة للحفاظ على ذلك الطابع المدهش الرائع للعالم والذي هو شيء فني مختلف عن عجائب العلم.. ولعل الرموز الموضوعية هي انقلاب معرفة الطبيعة بعد أزمة المذهب الفلسفي الوصفي وبذلك تصبح الصورة في خيال الفنان الرفاعي تقطعا لأشياء متفردة وزهيدة وعلاقتها مع الأشياء والتشكيلات المكونة.
وهي علاقة تقديرية بالقياس والتلميح تضم الإشارة إلى واقع اكثر غنى وأقوى. وبالترميز الموضوعي فالكلام والمشهد والكادر حافل بالرعب حيث انه لا يصل الإنسان بالإنسان. بل بالصور غير البشرية للطبيعة. كالسماء والجهل والفقر والمرض والجوع والحروب والهجرة والقتل والخطف والتعذيب والمادة الخالصة إلى ما هناك. ولعل التكوينات والرموز كأدوات تصور العمل والعالم عند الرفاعي كالتلميح والموضوعية كتقنيات العلاقة بين الأشياء هما اكثر من أدوات تعبيرية عند الفنان لان مقدرتنا على التصور والفهم للعمل نابعة من العزم على اكتشاف المعنى المطلق للأشياء.
ذلك المعنى الذي لا يمكن إرجاعه إلى حالاته البدائية الاعتيادية أو اليومية. وإنما ينبغي علينا وضعه خارج الزمان والمكان. حيث يصبح حضور الفنان صالح الرفاعي. هو القادر على تبيان وإيضاح الأمور والأفكار التي وضعها في التشكيل البصري الجميل .وهكذا كانت طائرة صالح الرفاعي التي عبرت سماء بيروت ولكنها لم تهبط بعد…
** فريد ظفور
فنان ضوئي وباحث في الفوتوغرافيا من سوريا
******
*مدارات الثقافية – شهرية ثقافية – تصدر عن مدارات للثقافة والفنون- السنة الثانية -الععد العشرين- اكتوبر 2021م