سحر الزارعي والقطار الخطأ.يعني ثمة رحلات لا تنتهي بالوصول والوجهة لا تشبهها

سحر الزارعي والقطار الخطأ

وجهة لا تشبهني

ثمة رحلات لا تنتهي بالوصول، بل بالاعتراف بأننا على الطريق الخطأ.

كنت أظن أن التراجع ضعف، وأن مواصلة السير في أي طريق ما دام قد بدأ فضيلة. تربّينا على تمجيد المثابرة، فصرنا نهاب الاعتراف بالتعب، نخجل من النزول، ونرتبك من فكرة الانسحاب، وكأن الرجوع جريمة في حق الطموح.

حتى صادفت تلك الأسطورة اليابانية التي تقول:
“إذا ركبت القطار الخطأ، انزل في أقرب محطة. فكلما تأخرت، زادت كلفة العودة.”
عبارة واحدة هزّت شيئًا في داخلي. فتأملت:
كم مرة ركبنا قطارات لا تشبهنا، وواصلنا الجلوس على مقاعدها فقط لأننا “بدأنا”؟
كم مرة سمّينا الخوف صبرًا، وسمّينا التردد حكمة، وسمّينا العجز وفاءً؟

الحياة كما أدركتها مؤخرًا ليست سلسلة من النجاحات المتراكمة، بل سلسلة من الإدراكات المتأخرة.
وحين ندرك أننا في طريق لا يُفضي إلى ذواتنا، فإن أول مظهر للنضج هو أن نملك شجاعة التوقف، لا إصرار الاستمرار.

في الفلسفة الوجودية، يؤكد سارتر أن “الحرية ليست امتلاك الطريق، بل امتلاك القرار.” والقرار الحقيقي لا يُقاس بقدرتنا على الانطلاق فقط، بل بقدرتنا على التراجع حين نكتشف أن الوجهة لا تُشبهنا، وأن الركض لا يصنع الوصول.

كل قطار نركبه هو استعارة لعلاقة، أو مهنة، أو فكرة تبنّيناها دون مساءلة. قد نظل متمسكين بها بدافع الخوف من الفراغ، من اللايقين، من الانتظار في محطة لا نعرف متى يمر بها القطار التالي.
لكن، ماذا لو كان الفراغ أصدق من التزاحم؟
وماذا لو كانت المحطة، بكل سكونها، أرحم من قطار يبتعد بنا عن حقيقتنا كل يوم أكثر؟

في علم النفس، يُطلق على هذا السلوك اسم “مغالطة التكاليف الغارقة” أي الاستمرار في خيار خاطئ فقط لأننا استثمرنا فيه الكثير. لكننا لا نُحاسب على ما بذلنا، بل على ما أضعناه في الاستمرار حين كان التراجع أجدى.

هل التوقف خسارة؟
ربما.
لكن ماذا عن الاستمرار في خيانة الذات؟ أليست تلك الخسارة الفادحة التي لا نُحصيها في دفاتر الحياة؟

نحن لا نُولد راكبين. نحن نختار رحلاتنا. وبعض الرحلات لا تتطلب تذكرة، بل شجاعة اعتذار للذات:
“آسف لأنني وضعتك هنا. لعلّ الوقت قد حان لنبدأ من جديد.”

فقل لي:
هل القطار الذي أنت عليه الآن، يأخذك إلى ما تُحب، أم يمرّ عليك كل يوم وأنت تزداد بعدًا عنك؟

#بوح_السحر

اترك تعليقاً