رسمها: بابلو بيكاسو.. مئة مرة محاولاً أن يقبض عليها.لكن فرانسواز جيلو.كانت هي من رسمت مصيرها.

كان عمرها 22 عاماً. أمّا هو، فكان في الحادية والستين.

وعندما حاولت أن تتركه، نظر إليها بابلو بيكاسو وانفجر ضاحكاً:

«لا أحد يترك بيكاسو.»

لكن فرانسواز جيلو فعلت ذلك رغم كل شيء.

وكانت المرأة الوحيدة التي نجحت فعلاً في الرحيل.

كان بيكاسو يدمّر النساء.

ليس مجازاً. بل حرفياً.

ماري-تيريز ووتر أنهت حياتها بعد أربع سنوات من موته.

دورا مار، المصوّرة العبقرية التي رسمها في لوحة المرأة الباكية، انتهى بها الأمر في مصحّات نفسية.

جاكلين روك، زوجته الثانية، أطلقت النار على رأسها بعد ثلاثة عشر عاماً من رحيله.

كان السيناريو دائماً نفسه:

يجد امرأة شابّة، لامعة، يحوّلها إلى ملهمة، يلتهمها من الداخل—وحين يملّ، يتركها محطّمة.

كان يقول إن النساء إمّا “إلهات أو ممسحات أحذية”.

وكان يسميهن “آلات للمعاناة”.

الجميع كنّ ينكسرن.

إمّا يبقين حتى يضعن أنفسهن جانباً، أو ينهارْن محاولاتٍ الهرب.

الجميع… ما عدا واحدة.

باريس، 1943.

في مدينة تحت الاحتلال النازي، وفي غرفة مليئة بالدخان والتوتر، تلتقي فرانسواز — طالبة فنون شابة — ببابلو بيكاسو.

ينظر إليها ويقول: «أنت صغيرة جداً. يمكنني أن أكون والدك.»

فترد دون أن تخفض عينيها: «لكنّك لست والدي.»

كانت تلك هي فرانسواز: صُلبٌ مغلّف بالأناقة.

بقيت معه عشر سنوات. وأنجبت له طفلين.

رسمها مئات المرّات، وسمّاها “المرأة التي ترى أكثر مما ينبغي”.

وبفضل هذا، رأت ما لم تجرؤ الأخريات على رؤيته:

الفخّ.

قالت: «كنت أحبه… لكني رأيت أيضاً كيف كان يدمّر ما يدّعي أنه يحبّه.»

في عام 1953، وبعد ليلة أخرى من التلاعب والصمت المليء بالغضب، نظرت إلى نفسها في المرآة.

كان عمرها 32 عاماً فقط، لكنها كانت تشعر بالشيخوخة والفراغ.

ومن خلفها، كانت لوحات بيكاسو تحدّق فيها كعيون لا تهرم.

التفتت إليه وقالت بهدوء:

«سأرحل.»

ضحك بيكاسو. ضحكة باردة، غير مصدّقة.

لم يجرؤ أحد قبلاً على تركه.

لكنها جمعت حقائبها.

أخذت طفليها.

وغادرت.

دون صراخ. دون مشاهد درامية.

بقوة امرأة قررت أن تنقذ نفسها.

لم تختفِ.

واصلت الرسم.

وربّت طفليها وحدها.

وأعادت بناء مسيرتها، لوحة بعد لوحة، ومعرضاً بعد معرض.

وفي عام 1964 نشرت كتاب الحياة مع بيكاسو، الذي روت فيه كل شيء: العبقرية والقسوة، السحر والسيطرة.

كان فضيحة كبرى. حاول بيكاسو منع صدوره.

لكن الكتاب أصبح نجاحاً عالمياً.

ولأول مرة، بدأ أسطورة بيكاسو في التشقق.

وأصبحت حقيقة فرانسواز قوةً للنساء الأخريات.

قالت:

«كان عليّ أن أحكي القصة… كي تعرف النساء أنهن قادرات على النجاة.»

بعد سنوات، أحبت جوناس سالك، الطبيب الذي أنقذ ملايين الأرواح بلقاح شلل الأطفال.

قالت:

«كان بيكاسو يريد امتلاك العالم… أما جوناس فكان يريد شفاؤه.»

معه وجدت ما لم يكن بيكاسو ليمنحها أبداً:

حب أساسه الاحترام، لا السيطرة.

ازدهر فنها. ووصلت أعمالها إلى متاحف كـ MoMA، وبومبيدو، وMET.

أصبحت فرانسواز جيلو ما كان بيكاسو يخشاه أكثر:

امرأة حرّة، فنانة تُبدع حياتها بنفسها.

توفي بيكاسو عام 1973 عن 91 عاماً، وحيداً، محاطاً بلوحاته.

أما فرانسواز فظلّت حيّة حتى عام 2023. ماتت عن 101 عام، بسلام، بعد أن عاشت خمسين سنة من الحرية أكثر منه.

رسمت، وأحبت، وعلّمت، وألهمت.

شهدت أبناءها يكبرون، وفنّها يسطع.

وأثبتت أن المرء يستطيع أن يحب… دون أن يلغي نفسه.

وعندما سألوها كيف وجدت الشجاعة لتغادر، أجابت بابتسامة:

«لأن الحرية هي الحب الوحيد الذي يستحق أن نتمسّك به.»

رسمها بيكاسو مئة مرة محاولاً أن يقبض عليها.

لكن فرانسواز كانت هي من رسمت مصيرها.

التقته في الثانية والعشرين،

تركته في الثانية والثلاثين،

وماتت في المئة والواحدة.

وفي كل يوم من عمرها الطويل أثبتت حقيقة بسيطة وقوية:

أن أعظم فعلٍ من أفعال الخَلق…

قد يكون رفض أن تُدمَّر.

أخر المقالات

منكم وإليكم