حين يبيع الكريم دنياه ليشتري مروءته.حكاية:البحتري مع طاهر بن محمد الهاشمي الحلبي في حلب..- د.سعيد.

البحتري مع طاهر بن محمد الهاشمي الحلبي في #حلب

مكارم_الأخلاق

الكرم

#الكريم لايخالف طبعه

طاهر بن محمد الحسني الهاشمي الحلبي … حين يبيع الكريم دنياه ليشتري مروءته

في حلب، تلك المدينة التي ما زالت تخفي في أحجارها بقايا النفوس الكبيرة، كان يعيش رجل اسمه طاهر بن محمد الهاشمي الحسني الحلبي ؛ رجل لا يُعرف بكثرة ما يملك، بل بكثرة ما يعطي.
ورث عن أبيه مائة ألف دينار ذهبي، فأنفقها كما تنفق الأرواح أنفاسها: لا تنتظر عليها عوضا، ولا تطلب لها حسابا.
جعلها في الزائرين والغرباء، وفي كل قلب يدخل عليه وفيه حاجة.

ثم جاء اليوم الذي انفض عنه المال كما ينفض الماء عن يد لا تمسكه، وبقيت الديون تطارد قلبه لا جيبه، حتى قعد في بيته كمن ينتظر رحمة الله أن تعوض عليه رحمة الأرض.

وفي ذلك الزمان قدم البحتري من #العراق إلى حلب، فسأل عن الرجل. فقيل له:
قعد في داره، أفناه الجود، وأتعبته الديون، ولكنه ما بخل ولا غير.

فدخل الغم على قلب الشاعر البحتري، وبعث إليه بالمدحة تنفيسا عن همه ومواساة له
فلما وصلت الرقعة إلى طاهر، بكى بكاء من يرى فضله في عيون الناس أكبر مما يرى نفسه.
وقال لغلامه كلمة لا يقولها إلا من جعل الدنيا تبعا لخلقه لا خلقه تبعا للدنيا:
بِع داري… فإن الكريم لا يفارق طبعه، ولو فارق كل شيء.

تعجب الغلام وقال:
أتبيع دارك وتبقى على رؤوس الناس؟
فقال:
وما الناس إلا عيال الله، وما الدار إلا دار امتحان، والمال أمانة في أيدينا .

فباع الغلام الدار بثلاثمائة دينار، فأخذ طاهر صرة صغيرة فيها مائة دينار، وكتب في رقعة كأنما اعتذر فيها من قلته لا من كرمه:

لو يكون الحباءُ حسبَ الذي أَنْـ
ـتَ لدينا به محلٌّ وأهــلُ
لحَبَيْتُ اللُّجينَ والدرَّ والياقوتَ
حثوًا وكان ذاك يَقِلّ
والأديبُ الأريبُ بالعذر
إذ قَصَّر الصديقُ المُقِلّ

وصلت الصرة إلى البحتري، فارتد عليه الكرم مرتين: مرة من طاهر، ومرة من نفسه.
فرد المال مع رقعة تقول:

بأبي أنت، واللهُ للبرِّ أهلٌ
والمساعي بَعدٌ وسعيُك قبلُ
والنوالُ القليلُ يكثرُ إن شاء
مُرجِيك، والكثير يقلُّ
غير أني رددتُ بِرَّك إذ كان
رِبًا منك، والربا لا يحلّ
وإذا ما جزيتَ شعرًا بشعرٍ
قُضي الحقُّ، والدنانيرُ فضلُ

فلما عادت الدنانير إلى طاهر، حل الصرة، وزاد عليها خمسين دينارا من آخر ما يملك، وحلف ألا يردها.
فلما وصلت إلى البحتري أنشد يقول:

شكرتك إن الشكر للعبد نعمةٌ
ومن يشكر المعروف فالله زائده
لكل زمانٍ واحدٌ يُقتدى به
وهذا زمانٌ أنتَ لا شكَّ واحدُه

وهكذا التقت في هذه القصة مروءة تعطي، ومروءة ترفض أن تأخذ.
التقت يدان: إحداهما تنفق كأنما تصلي، والأخرى تَزِن المعروف بميزان لا يخالف أهل الفضل.
وفي ذلك اللقاء، كتبت حلب سطرا آخر من سطورها القديمة:
أن الكرم في هذه المدينة ليس سجية تُكتسب، بل مقام تُرفع إليه النفوس، وأن الكريم إذا افتقر بقي أغنى من الغني إذا بخل.
منقول من د.سعيد

أخر المقالات

منكم وإليكم