ثلاثية نواوي
د. عصام عسيري
في ثلاثية تشكيلية لعبدالله نواوي، لا نتعامل مع ثلاث لوحات منفصلة بقدر ما نواجه مشروعاً بصرياً واحداً يتوزع على ثلاثة مشاهد، تتجاور فيها الذاكرة، والمدينة، والرمز الكوني، في بناء جمالي ينهض على التعبير لا على الوصف، وعلى الإيحاء لا على السرد المباشر.
أولاً: تنتمي هذه الأعمال إلى التعبيرية الرمزية، حيث لا يُستدعى الشكل بوصفه تمثيلاً واقعياً، بل باعتباره حاملاً لمعنى نفسي وثقافي. الفنان هنا لا يرسم ما يُرى، بل ما يُحَسّ ويُختزن في الذاكرة الجمعية والمشاعر النفسية.
نلحظ منذ النظرة الأولى وحدة لونية وروحية:
هيمنة الترابيات “الألوان الكروماتية” (البني، الأصفر، الأخضر الزيتوني) بتناغم جميل.
حضور متكرر للدائرة والمرأة والناس والحركة الانسيابية.
توازن مدروس بين الكتلة والخط، وبين الامتلاء والفراغ.
هذه العناصر تجعل الثلاثية أشبه بنص بصري مفتوح، يتيح تعدد القراءات دون أن يفقد تماسكه.
اللوحة الأولى: الذاكرة والبدء
في اللوحة اليسرى، تتصدر التكوين أشكال أقرب إلى الفرح بالحصاد، تتجاور مع نخيلٍ كثيف، كرمز مكاني وزماني في آن.
النخلة هنا ليست عنصراً زخرفياً، بل أيقونة وجودية تشير إلى الجذور، الاستمرارية، العلاقة بين الإنسان والمكان.
الوجوه الدائرية المدمجة في الأشكال تستدعي مفاهيم المراقبة، الوعي، وربما القلق الوجودي. إننا أمام مشهد يلامس اللاوعي، حيث تتجاور الطبيعة مع الرمز، والأسطورة مع الواقع.
اللوحة الثانية: المدينة والإنسان
في العمل الأوسط، ينتقل نواوي من الرمز الكوني إلى الفضاء العمراني.
حارات مدينة جدة القديمة، عمارات ودكاكين متلاصقة، وأجساد بشرية مبسطة تتحرك في الشارع، بلا ملامح فردية واضحة.
هذا التبسيط المتعمد يلغي الفرد لصالح الجماعة، ويحول الإنسان إلى إيقاع بصري داخل نسيج المدينة.
جدة هنا ليست خلفية، بل كائن حي يبتلع ساكنيه، في قراءة نقدية رصينة لعلاقة الإنسان بالمكان الحضري التقليدي، حيث التداخل بين الألفة والازدحام، وبين الحميمية والضياع.
اللوحة الثالثة: الرمز الكوني والتحول
أما اللوحة اليمنى، فهي الأكثر تجريداً وكثافة رمزية.
نرى كتلة مركزية تشبه الجبل أو التكوين العضوي، تعلوه شخصيات بأشكال دائرية، وتعلوهم دائرة كبرى في الأعلى، يمكن قراءتها كشمس تضيء المشهد، أو مركز طاقة روحي.
الانسيابات الآدمية الملونة العمودية في الأسفل توحي بالتحلل، أو بالتحول، وكأن الكتلة في حالة انتقال من المادي إلى المتجاوز. هنا يبلغ العمل ذروته الفلسفية، حيث يغادر المكان المحدد إلى أفق كوني مفتوح لخارج الإطار.
تتجلى جماليات هذه الأعمال عبر عدة مستويات:
- القيمة التعبيرية
حيث تُوظف الخطوط والألوان لخدمة الحالة الشعورية، لا الشكل الخارجي. - القيمة الرمزية
استخدام عناصر متكررة (الإنسان، الدائرة، الكتلة) يمنح العمل عمقاً تأويلياً متعدد الطبقات. - القيمة التكوينية
توازن دقيق بين الفوضى المنظمة، والحركة الداخلية المدروسة داخل سطح اللوحة. - القيمة الثقافية
استدعاء المكان المحلي (النخلة، المدينة القديمة، الطرب) دون الوقوع في المباشرة أو الفولكلور السطحي.
السيرة الذاتية والمكانة الثقافية للفنان عبدالله نواوي
عبدالله نواوي 1946-2023م فنان تشكيلي ينتمي إلى جيل عربي معاصر يشتغل على تحرير الشكل من الوصف، وإعادة تحميله بالمعنى وتتسم تجربته بالبحث المستمر في،
العلاقة بين الإنسان والمكان، الذاكرة الجمعية، الرموز ذات الجذور الثقافية والإنسانية.
أسلوبه التجريدي يميل إلى التعبير العاطفي ذا البعد الفلسفي، حيث تتقاطع التجربة والحس الشخصي مع الهمّ العام، ويغدو العمل الفني مساحة للتأمل لا للإجابة الجاهزة.
ثقافياً، يندرج نواوي ضمن الفنانين الذين يؤكدون أن الفن ليس ترفاً جمالياً، بل أداة وعي وفهم للذات والعالم، وقدم خطاباً بصرياً يتجاوز المحلي دون أن يتنكر له.
له مساهمات بارزة في إغناء المشهد التشكيلي السعودي المعاصر، كما له الفضل في تنظيم عشرات المعارض المدرسية للطلبك والمعلمين، منها شجع عشرات الفنانين للدخول للساحة الثقافية وعرض أعمالهم في المعارض التشكيلية من خلال دوراته بالنادي الأهلي وإدارة التعليم وجمعية الثقافة والفنون.
ختامًا، هذه الثلاثية ليست مجرد أعمال معلقة على الجدار، بل رحلة بصرية تبدأ من الجذور، مروراً بالمدينة، وصولاً إلى الأفق الكوني.
إنها تجربة تؤكد نضج الفنان، ووعيه بالتاريخ والرمز والإنسان، وتضع عبدالله نواوي في موقع فني وثقافي يستحق التوقف عنده، قراءةً وتأملاً، حفاوةً وتكريمًا، لا استهلاكاً سريعاً.
الأعمال #مقتنيات_خاصة

