حين تحوّل القناع إلى لغة حداثة
إعداد وترجمة
أميرة ناجي
((. الفن ليس مرآة تعكس الواقع بل مطرقة تشكّله
برتولت بريخت))
لا تختصر هذه المقولة في بعدها السياسي أو المسرحي فحسب بل يمكن قراءتها بوصفها مفتاحا عميقا لفهم تحولات الحداثة الفنية في مطلع القرن العشرين وخصوصا تجربة بابلو بيكاسو فالفن وفق هذا المعنى لا يكتفي بمحاكاة العالم أو تجميله بل يتدخل في بنيته ويعيد صياغة رؤيتنا له ويقترح أشكالا جديدة للإدراك وهنا تتقاطع تجربة بيكاسو مع الفن الأفريقي الذي لم يكن مرآة للواقع المرئي بل أداة سحرية وطقسية لتشكيل الوجود ولمواجهة المجهول وإعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والعالم
من أهم الأسئلة التي أثيرت مع بدايات حداثة الفن العالمي إلى أي مدى استندت حداثة بيكاسو إلى فنون الشتات الأفريقي ولماذا لا يزال هذا التأثير الواضح غير معترف به على نطاق واسع فبحلول أواخر القرن التاسع عشر ونتيجة مباشرة للاستعمار الأوروبي وصلت آلاف القطع الأثرية الأفريقية إلى أوروبا ولم تعامل هذه القطع بوصفها أعمالا فنية بل نظر إليها باعتبارها غنائم استعمارية أو شواهد إثنوغرافية بلا قيمة جمالية أو اقتصادية غير أن هذا الوضع بدأ يتغير مع مطلع القرن العشرين حين راحت الطليعة الفنية في باريس تبحث عن بدائل جذرية للتقاليد الأكاديمية التي استنفدت طاقتها التعبيرية وأصبحت عاجزة عن التعبير عن تحولات الإنسان الحديث
في هذا السياق وجد بيكاسو وجيله في جماليات الفن الأفريقي مصدرا صادما ومحررا في آن واحد إذ كسر هذا الفن مركزية المنظور الواحد وقوض فكرة المحاكاة وفتح المجال أمام لغة بصرية جديدة تتعامل مع الشكل بوصفه بناء ذهنيا وروحيا لا مجرد انعكاس بصري لقد رأى بيكاسو في التجسيد الأفريقي عمقا دينيا وهدفا طقسيا وفي الأسطح المستوية والخطوط الجريئة إمكانية ثورية لإعادة بناء الشكل وكان لهذا الاكتشاف أثر بالغ في نشأة التكعيبية وفي تمكين فنانين مثل غوغان وبراك وبيكاسو من إحداث انقلاب بصري غيّر مسار الفن الغربي
حتى وقت قريب كان يشار إلى تبني الفن الغربي للثقافة البصرية الأفريقية بمصطلح البدائية وهو توصيف بات اليوم محل نقد حاد لما يحمله من دلالات استعلائية ففي مطلع القرن العشرين نظرت النخبة الأوروبية إلى أفريقيا وأوقيانوسيا بوصفهما فضاءات غامضة ومتوحشة في الوقت الذي استغلت فيه هذه الثقافات باعتبارها مخزونا بصريا خاما يغذي خيال الحداثة وقد أثارت القطع الأثرية الأفريقية في أوروبا مزيجا من الانبهار والصدمة إذ قرئت روحانيتها بفضول مشوب بالازدراء وعلى خلاف الفن الغربي لم تصنع هذه الأعمال بغرض جمالي صرف بل لأداء وظائف طقسية واجتماعية ودينية مرتبطة بالعبور والحماية والتواصل مع العوالم غير المرئية وهو ما ترك أثرا عميقا في فهم بيكاسو لوظيفة الفن ذاته
في ربيع عام 1907 اشترى هنري ماتيس تمثالا أفريقيا صغيرا أثناء توجهه لزيارة جيرترود شتاين في باريس وكان بيكاسو حاضرا هناك وسرعان ما أسر بالتمثال الذي تبين لاحقا أنه تمثال فيلي من الكونغو الديمقراطية وكان بيكاسو المعروف بإيمانه بالقوى الخفية للأشياء يرى في هذه المنحوتات طاقة سحرية قادرة على التحويل ويروي ماكس جاكوب أن بيكاسو ظل ممسكا بالتمثال طوال الليل متأملا ملامحه الانسيابية وغايته الروحية وبعد أيام قليلة زار متحف تروكاديرو برفقة أندريه ديرين وهي الزيارة التي سيصفها لاحقا بأنها لحظة اكتشاف جوهر الرسم إذ أدرك هناك أن الفن ليس ترفا جماليا بل فعل سحري يقف بين الإنسان والكون المعادي وسيلة للسيطرة على الخوف ومنحه شكلا مرئيا
بعد تلك الزيارة عاد بيكاسو إلى عمل كان قد بدأه في مرسمه ليتحول لاحقا إلى لوحة آنسات أفينيون عام 1907 العمل الذي يعد نقطة الانطلاق الحقيقية للتكعيبية وقد صورت اللوحة خمس نساء بأجساد حادة الزوايا مفككة وخارجة عن كل معايير الجمال الكلاسيكي واستوحى بيكاسو ملامح بعض الشخصيات من التماثيل الإيبيرية القديمة فيما استند في شخصيات أخرى إلى الأقنعة الأفريقية مثل أقنعة قبيلة دان في ساحل العاج وأقنعة مبويا لدى شعب بيندي ولم تكن هذه الاستعارات شكلية فحسب بل حملت معها وظائف القناع الروحية من حماية ومواجهة واستحضار للقوى الغيبية
مثلت آنسات أفينيون قطيعة جذرية مع النزعة الطبيعية التي هيمنت على الفن الغربي منذ عصر النهضة وقد قوبلت اللوحة بالرفض والصدمة واعتبرت فاضحة ومخيفة حتى أن بيكاسو أخفاها في مرسمه سنوات طويلة لكنها في العمق فتحت أفقا جديدا للفن الحديث ففي السنوات اللاحقة واصل بيكاسو استلهام الفن الأفريقي عبر اختزال الملامح إلى أشكال هندسية وتفكيك المنظور الواحد وهو ما قاده مع جورج براك إلى تأسيس التكعيبية وقد مهد هذا التحول الطريق لحركات تجريدية كبرى مثل المستقبلية والبنائية مؤكدا أن الفن لم يعد محاكاة للعالم بل إعادة صياغة جذرية له
بهذا المعنى لا يمكن فهم حداثة بيكاسو من دون الاعتراف العميق بتأثير الفن الأفريقي لا بوصفه فنا بدائيا بل باعتباره نظاما بصريا وفلسفيا متكاملا أسهم في زعزعة مركزية الفن الغربي وفتح الباب أمام قرن كامل من التجريب والبحث حيث تحوّل القناع من طقس مقدس إلى لغة حداثة ومن أداة روحية إلى مفتاح لإعادة تعريف الفن ذاته.
******
المصادر:
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
********


