بالاوبرا المعرض العام الـــ 45″ دهشــة للكائنات الحية لـم تُفـرغ بعـد

بالاوبرا المعرض العام الـــ 45

فـي المعـرض العـام الـــ 45″ دهشــة لـم تُفـرغ بعـد “

أ.طارق رضوان

🌿🌿 صبــاح الخيــر 🌿🌿
مقالي غداً بـ” جـريدة القـــاهرة ” التابعة لوزارة الثقافة المصرية
الثلاتـاء 1 من يوليو 2025
العدد 1302 صفحة “فنون”

خالص الشكر والتقدير لحضرتك: ا/ طارق رضوان 🍀🙏🍀
Eman Osama

فـي المعـرض العـام الـــ 45″ دهشــة لـم تُفـرغ بعـد “

هناك دهشة لا تتسع لها العين، ولا تختزل في لوحة، دهشة لا تنتمي إلى اللحظة،

بل تسكننا منذ الطفولة الأولى، حين رسمنا أول خط مرتجف على جدار، ولم نعرف لماذا ارتجف.

المعرض العام في دورته “الخامسة والأربعين” لا يكتفي بعرض الفن، بل يكشف ما لم نجرؤ على تسميته،

ذلك الارتباك الأول، ذلك الوميض الذي يسبق التكوين، تلك الرغبة الغامضة في أن نحول الألم إلى هيئة، والحلم إلى سطح ملموس.

في دار الأوبرا المصرية، لا تقدم الأعمال بوصفها منتهية، بل” ككائنات حية ” ما زالت تتنفس، تتلوى، وتبحث عن خلاصها في أعيننا، الفن هنا لا يتفاخر، لا يدّعي الاكتمال، إنه يعرض نفسه كما هو، “هش، غاضب، مسالم، مشوش، وعميق”.

إنها دهشة لم تُفرغ بعد، لأن كل عمل فني هو محاولة مجيدة للقبض على شيء لا يُمسك، وفي هذه المحاولات، يكمن المعنى الحقيقي لهذا المعرض، أن نندهش، لا لنفهم فحسب، بل لنظل حاملين روح الدهشة بداخلنا.

في معرض شارك فيه 327″ فنانًا و421 عملًا” ، كان من السهل أن يغمرنا الزخم، أن نُفتَت أمام وفرة الألوان والتقنيات، لكن هناك أعمال كانت شيئًا آخر،

لم تكن استعراضًا، بل توجهت مباشرة إلى المنطقة التي يخاف معظم الفن من الاقتراب منها” الداخل”….

داخل الإنسان، داخل الصمت، داخل ما لا يقال.

منحوتة “ماكينة خياطة” للفنان “باهر جميل” ليست مجرد استعارة مجسمة، بل هي مواجهة بين نقيضين” حجر البازلت، وزجاج شفاف”،

الماكينة منحوتة بدقة توحي بأنها صلبة، خامدة، لكنها تقبض في قلبها على هشاشة الزجاج،

كأنها فـي المعـرض العـام الـــ 45″ دهشــة لـم تُفـرغ بعـد “تطرّز شيئًا لا يُرى، العمل يعيدنا إلى الأم،

إلى الخياطة المنزلية، إلى مشهد الطفولة، لكنه يعيد تشكيل تلك الحميمية في قالب قاتم، صلب، كأن الزمن مرّ عليها وسحق دفئها.

لا نرى يدًا تخيط، بل نرى آلة خامدة تُخبرنا كم هي الحياة نفسها آلة تستمر رغم كل انكسار،

في زمن سريع، حيث تُنسى التفاصيل وتدفن الذكريات، يأتي عمل باهر جميل ليعيدنا إلى البدايات،

إلى ما نخيطه لنخفي تمزقاتنا، الماكينة، في “رمزيتها”، هي أداة ترميم، لكنها هنا من حجر، مما يطرح سؤالًا،

هل ما نخيطه قابل للشفاء فعلًا؟

أم أننا نحفر في الجرح أكثر حين نبحث عن ترميمه؟ الزجاج في قلب الحجر هو سر العمل؛ شفاف، لكنه هش، يعكس الضوء، لكنه مهدد دوماً بالكسر،

وكأننا جميعاً نحمل في داخلنا قطعة زجاجية، مرئية، لكنها على حافة الانهيار.
وفي أحد أركان المعرض، حيث الظلال تتسلل خافتة، كانت الفنانة “سماح حمدي” تقدم “عرض أداء” بعنوان “بماذا يحلم الناجون؟”،

لكنه ليس عرضاً بالمعنى المسرحي، بل طقساً شعائرياً تتورط فيه كمتلقٍّ من اللحظة الأولى، لا مقدمة، لا موسيقى درامية، فقط جسد يتحرك، يتلوى، يقاوم سقوطه، على الأرض،

كأنما خرج لتوه من كارثة، الجسد هنا لا يحكي، بل يتكلم عبر صمته، عبر الحركات المتشنجة والانقباضات اللاإرادية،

سرير معدني، بطانية مبلّلة، ضوء أبيض وامض، كل شيء يبدو كأنه يحدث بعد الانفجار، بعد النجاة، لا في أثنائها،

وكأننا أمام سؤال يُلقى دون انتظار إجابة…

ماذا يحدث لمن نجا؟ هل يفرح؟ أم يبدأ معركة جديدة مع بقاياه؟

ومن برلين إلى القاهرة، يعود

الفنان “سامح الطويل” ليعرض”

فيديو آرت” بعنوان “شمس في سبات”،

يدور حول رأس نفرتيتي التي لا تزال في متحف برلين، بعيداً عن موطنها،

العمل لا يُقدم بخطاب سياسي مباشر، بل بصمت شاعري قاتم، شاشة واحدة،

وجه نفرتيتي يظهر ببطء، يذوب، يتشوه، ثم يعود للظهور، الضوء خافت، الصوت غائب، كأن كل شيء يغوص في سبات.

لكن، أي شمس هذه؟

هل هي الحضارة؟ الجمال؟ الوعي؟

رأس نفرتيتي هنا ليست مجرد قطعة أثرية،

بل استعارة لكل ما سُرق، لما هُجّر، لما صُمِت عنه، والفيديو لا يحتج، لا يطالب، بل يرثي، إنه تأبين لحلم قديم، حلم بالاستعادة، بالعودة، بالانتماء،

سامح لا يقدم فيديو تقنياً متقنًا فحسب، بل عملًا ينحت في الفراغ، الفراغ بين الوطن والمنفى، بين الجمال والعتمة، بين الذاكرة والنسيان،

“شمس في سبات”

لا تقول إن الشمس ماتت، بل إنها نائمة، وأن علينا أن نوقظها؛ لا بالصراخ، بل بالفن.

في عمله الفوتوغرافي التجريبي

“المدينة”، يعيد الفنان ” أيمن لطفي “

تعريف معنى الأمان في عالم مهدد، عبر رؤية بصرية جريئة تنطلق من مقولته،

 “المكان الآمن للعيش في هذا العالم الآن هو” رحم الأم”،

لا تظهر المدينة في الصورة ككيان عمراني، بل كتكوين داخلي شبحي،

تبدو الصورة أشبه بسونار جنيني منها بمنظر حضري، هنا، يُستبدل المعمار بالإحساس، والشارع بالذاكرة البيولوجية،

فتتحول الفوتوغرافيا إلى وسيلة عاطفية للارتداد نحو الأصل، رحم الأم لا يصور فقط كملاذ،

بل كـ”أمل ميتافيزيقي أخير” في مواجهة عالم فقد حدوده الإنسانية،

يمحو لطفي فكرة الخارج ويستبدلها بأمان مطلق في الداخل، فيحمل عمله بعداً احتجاجياً ضد مدن فقدت حضنها،

وضد زمن صار الخروج منه تهديدًا مستمراً، “المدينة” لا توثّق شيئًا، بل تحتضنك، وتهمس، ربما لم نكن بحاجة إلى المدن يوماً، بل فقط إلى رحم لا يخون.

ويلتقط الفنان

“سمير فؤاد” في لوحته “لحظة تجلٍّ”

لحظة لا تُرى بالعين بل تُحس بالروح، حيث يتحول الجسد إلى نور، واللون إلى صمت داخلي،

العمل، المنفّذ بخامة الزيت على التوال، لا يصور هيئة إنسانية بقدر ما يستحضر شحنة روحية خارقة،

حيث تقف الطفلة في قلب اللوحة كما لو أنها الناجية الأخيرة من مشهد لم يُكتب بعد، ملامحها تتلاشى، يدها غائبة، وخلفها حطام غامض،

كأنه بيت يُهدم أو وطن يُمحى، الفنان لا يرسم الطفلة، بل يرسم ما تبقى منها بعد أن مر الدمار،

اللون الأحمر لفستانها يصرخ في وجه الخلفية الطينية، كأن الجسد الصغير” يحاول الصمود” بجماله الهش وسط انهيارٍ هائل،

لا يعنى العمل بالدقة، بل بالاهتزاز، حدود الجسد غير واضحة، السماء شبه صافية، لكن الأرض تنزف،

“التقنية التعبيرية” هنا ليست فقط أسلوباً،

بل موقفاً أخلاقياً؛ الفنان يرفض أن يمنح الوجع وضوحاً مريحاً، بل يتركه متذبذباً،

كصورة من ذاكرة مشوشة، الطفلة لا تنظر إلينا، بل تمر بنا،

مثل شبحٍ حي يحمل رسالة صامتة، أن البراءة وحدها لا تكفي للبقاء، لوحة تجبرنا على أن نواجه هشاشة الأمل،

وتطرح سؤالاً مريراً، كيف نرسم المستقبل حين يكون القماش مشقوقاً منذ البداية؟

وفي عمله

“مشاعر إنسانية”، يخلق الفنان “حسن داود”

مسرحاً بصرياً تنفجر فيه الأحاسيس من صمت الأبيض والأسود،

ليتحول الجسد الأنثوي إلى لوحة داخل لوحة، وإلى مرآة لجسد العالم،

الصورة الأولى تنسج خريطة نفسية معقدة، حيث تتوزع تعبيرات الوجه، والرموز،

والخط العربي كأنها شظايا ذاكرة معلّقة فوق جذور شجرة عارية، في إحالة مباشرة إلى هشاشة الهوية وكثافة الوعي،

في الصورة الثانية، يقف الجسد الأنثوي مغمض العينين، يحكم توازنه خيط مشدود بين جناحي طائر، في لحظة فارقة بين السيطرة والانفلات،

لا يوثق حسن داود مشهداً، بل يصنع قصيدة بصرية، تتحد فيها الطفولة بالقوة، والخوف بالكرامة، والطبيعة بالحلم المكبوت، عمله لا يُقرأ بعين المتلقي فقط،

بل يُستشعر كنبضٍ داخلي يعيدنا إلى مشاعر نسينا كيف نعترف بها، “مشاعر إنسانية” ليس تصويراً، بل تجسيد بصري لارتباك الإنسان في مواجهة نفسه، وصراعه مع العالم الذي يسكنه ويهرب منه في آنٍ معاً.

وفي عملها “ابنة الماء”، ترسم الفنانة “إيمان حكيم” المرأة لا كجسد، بل “ككون بحري”

يحتشد بالحكايات والمخلوقات والأسئلة، تقف “الابنة” في مركز اللوحة عارية إلا من زرقة مائية تغلفها،

كأنها خرجت لتوها من رحم البحر، تحمل في عينيها صمت الأعماق ودهشة البر الأول،

تحيط بها كائنات أسطورية، وجِمال، وطيور، وأسماك، ونخيل، كأنها شاهدة على تاريخٍ غير مكتوب، تحمله في خلاياها،

الألوان تتداخل بإيقاع حيوي بين الدافئ والبارد، بين الطين والماء، في حوار دائم بين الحياة والخلق والأنوثة،

لا ترسم حكيم امرأةً فقط، بل رؤيا عن نشأة الأشياء، عن الأصل، عن الأنثى كمصدر للطبيعة نفسها، اللوحة لا تسرد، بل تُنصت، وتدعونا للغوص في طبقاتها

كما يُغاص في البحر،” بهدوء، وخشوع، وانبهار”، “ابنة الماء”

ليست فقط عملاً بصرياً، بل أيقونة معاصرة للخصوبة الكونية، حيث تصبح المرأة أرضاً، وماءً، وذاكرةً، ومصيراً لا فكاك منه.

اختتم المعرض العام الـ٤٥ بدار الأوبرا المصرية مسيرته كواحد من أبرز الشواهد على حيوية المشهد الفني المصري وتنوعه. بمشاركة نخبة من الفنانين عبر أجيال متعاقبة، قدّم المعرض لوحات تجسد تحولات الهوية والحداثة والتجريب، من التشخيص إلى التجريد وصولاً للتركيبات المبتكرة.

هذا الحدث، الذي يجسد ٤٥ عاماً من دعم الإبداع، لم يكن مجرد عرض فني، بل حواراً بصرياً بين الموروث الثقافي وروح العصر،

مؤكداً دور مصر” كحاضنة للفنون” ورافعةٍ للأصوات الجديدة، في زوايا قاعاته،

التحمت أصالة الماضي بجرأة الحاضر،

ليرسم ملامح مستقبلٍ فني واعدٍ يثبت أن الفن شريان حيوي لا ينضب.

*********

معرض الصور:

**************************

المراجع والمصادر:

مواقع إجتماعية- فيس بوك

fotoartbook

elitephotoart

اترك تعليقاً