حسن داود: سيرة هندسية للضوء واللون
مقدمة
في حيّز لا نهائي بين الخط والفراغ، بين دقّة المهندس وحرية الفنان، تُولد الرؤية. هنا، عند نقطة الالتقاء الفريدة بين العقل التحليلي للعمارة والروح الحالمة للفن، يقف حسن داود – ليس مجرد فنان، بل ظاهرة إبداعية متعددة الأوجه. إنه المهندس المعماري الذي يبني عوالمًا على قماش اللوحة، والمصور الضوئي الذي يمسك بجوهر اللحظة بإحساس تشكيلي عميق، والفنان التشكيلي الذي يسبك الموروث البصري بروح العصر.
داود هو ابن القاهرة العريقة، المدينة التي تنام على تاريخ من الفنون وتستيقظ على همس الحداثة. حاملاً شهادة بكالوريوس العمارة منذ 1983، لم يكتفِ بتشييد الجدران، بل انطلق ليشيد عمارة بصرية خاصة في ذهن المتلقي. مسيرته، التي تمتد لأكثر من ثلاثة عقود، هي رحلة استكشاف مستمرة للعلاقة الجدلية بين الشكل والوظيفة، بين الواقع والتخييل، بين الذات والمكان. فهو لا يلتقط الصور فحسب، بل يحفر في طبقاتها النفسية والجمالية؛ ولا يرسم المشاهد فقط، بل يخططها كما يخطط لفراغ معماري، حريصًا على التوازن والإيقاع والضوء.
في هذا الملف الفني، نتتبع مسار فنان حوّل خلفيته الهندسية إلى قاموس بصري غني، وجعل من غاليريه الخاص في حي الدبلوماسيين بالمقطم منصة حوار فني، وارتقى بأعماله لتمثّل مصر في أبرز المحافل الدولية، حاصدًا جوائز مرموقة من وارسو إلى دلهي. حسن داود: حكاية إبداع لا تُختزل في تقنية، بل تُقرأ كسيرة للجمال المصرّف بإتقان.
—
الجذور التأسيسية: هندسة الروح
لم يكن تخرّج حسن داود مهندسًا معماريًا عام 1983 مجرد محطة أكاديمية، بل كان ولادةً لرؤية فنية فريدة. العمارة، بوصفها فن تنظيم الفراغ والكتلة والضوء، منحته أدواته الأولى: إحساسًا دقيقًا بالتناسب، وعينًا مدربة على تقطيع المشهد إلى عناصره الأساسية، وفهمًا عميقًا للعلاقة بين الإنسان والمكان. هذه المهارات لم تبقَ حبيسة المخططات الإنشائية، بل هاجرت بسلاسة إلى عالمه البصري، لتصبح اللغة السرية التي يتحدث بها في لوحاته وصوره الفوتوغرافية.
في أعماله التشكيلية، يظهر حس الهندسة جليًا في ترتيب العناصر، وتوازن الكتل اللونية، وتأطير الفراغات لتحمل دلالات نفسية. أما في التصوير الضوئي، فتبدو عين المهندس في اختياره للزوايا، وبناء التكوين، ولعبه بالخطوط والأشكال الهندسية الكامنة في البيئة الحضرية أو الوجوه الإنسانية. إنه لا يسجّل الواقع، بل يعيد هندسته وفق رؤيته الجمالية.
المحترف المتعدد: بين التشكيل والعدسة
الفنان التشكيلي
يمثل المشروع التشكيلي لحسن داود امتدادًا طبيعيًا لفكره المعماري، لكنه امتداد محرر من قيود الوظيفة والمواد. عبر الرسم والتلوين، يستكشف عوالم داخلية وفلسفية، غالبًا ما تعكس تأملاً في الهوية والذاكرة والوجود. أسلوبه، رغم جذوره الأكاديمية، لا يخشى التجريب، مازجًا بين التقنيات الكلاسيكية ولمسات معاصرة، في حوار خلاق بين الأصالة والحداثة.
المصور الضوئي المحترف
هنا يبرز داود بقوة كأحد أبرز الأصوات في التصوير الفوتوغرافي المصري المعاصر. عدسته لا تبحث عن اللحظة العرضية، بل عن اللحظة الحاملة للقصّة والمشاعر. سواء كان موضوعه شخوصًا في محيطهم اليومي، أو تفاصيل معمارية، أو مشاهد طبيعية، فإنه يعالجها بعين فنان تشكيلي. الضوء عنده ليس مجرد عنصر إضاءة، بل هو شخصية رئيسية في العمل، يُحاك به ليكشف عن المكنون ويلوّن المزاج. إنه يصوّر الروح الكامنة خلف الأشياء.
الغاليري: منصة حوار ومشروع ثقافي
لا يقتصر دور داود على الإنتاج الفردي، بل يمتد إلى التأسيس لمساحة حوار جماعي. فغاليريه الفني الخاص في القاهرة ليس مجرد مكان لعرض أعماله، بل تحول إلى منصة ثقافية ناشطة. هذا الفضاء، الذي يديره بفكر هندسي وفني معًا، يستضيف معارض لفنانين آخرين، وينظم فعاليات وورش عمل، ساعيًا لخلق حوار بين المبدعين والجمهور، وتعزيز التلقي النقدي للفن. إنه امتداد لرؤيته التي تؤمن بأن الفن ظاهرة مجتمعية وحوار مستمر.
الرؤية الفنية: نحو وعي بصري جديد
يمكن تلخيص رؤية حسن داود الفنية في سعيه الدؤوب لخلق وعي بصري متطور. من خلال دمج الحرفية العالية في التصوير والتشكيل مع العمق الفكري، يسعى لتحدي الإدراك البصري التقليدي لدى المشاهد. أعماله تدعو للتأمل، لا للمشاهدة العابرة. وهي غالبًا ما تتناول قضايا إنسانية واجتماعية، وتستكشف الهوية المصرية في عصر العولمة، من دون أن تقع في فخ التسطيح أو الخطابية المباشرة. الفن عنده وسيلة لفهم العالم وتعقيداته، وليس مجرد زينة.
مسار عالمي: معارض وجوائز
تُظهر سجل معارض داود تنوعًا جغرافيًا وثقافيًا لافتًا، يؤكد حضوره كفنان عالمي المنزع:
· انطلاق محلي وإقليمي: بدأ من القاهرة (أتيلية القاهرة، المركز الثقافي الروسي) ثم امتد إلى المملكة العربية السعودية (الرياض، جدة) مرورًا بأبوظبي وبغداد.
· انتشار دولي: شارك في محافل عالمية مرموقة مثل المؤتمر العالمي للفنون التشكيلية في براغ (2008)، ومعارض في كولن الألمانية (2010، 2017)، وحصل على تكريمات في قارات متباعدة.
· جوائز محورية: توج مسيرته بجائزتين دوليتين رفيعتين:
· جائزة صالون التصوير في دلهي بالهند (2013).
· الجائزة الأولى في مسابقة التصوير المفاهيمي بمتحف وارسو الوطني في بولندا (2015) – وهي جائزة تثبت قدرته على نقل الفكرة المجردة إلى صورة قوية، وترسخ مكانته في فن التصوير المفاهيمي العالمي.
· تكريم مهني: بلغت ثقة الوسط الفني المصري فيه ذروتها بدعوته ليكون عضو لجنة تحكيم في المعرض العام بالقاهرة (2021)، وهو موقع يشهد على احترامه كحكيم وخبير.
—
خاتمة: هندسة الجمال وسفر الضوء
في الختام، تمثل مسيرة حسن داود أكثر من مجرد نجاح فردي؛ إنها نموذج إلهامي للفنان المثقف والعالِم بحرفيته. لقد أثبت أن التخصص في العمارة يمكن أن يكون جذعًا شجرة فنية مثمرة، تفرعت إلى فن تشكيلي حكيم وتصوير ضوئي عميق. هو جسر بين الانضباط الهندسي والتحليق الإبداعي، بين العمق المحلي والحضور العالمي.
داود، من مرسمه في المقطم، لا يزال يرسل رسائله البصرية إلى العالم: رسائل تذكرنا بأن الفن الحقيقي ينبع من رؤية واضحة، وحرفة متقنة، وإنسانية صادقة. إنه فنان بمعنى الكلمة: صانع للجمال، وباني للوعي، ومهندس لعوالم الضوء التي تبقى في الذاكرة طوًلا بعد أن تنتهي من مشاهدتها. في سجله الحافل، وفي بصمته على تلاميذه ومتابعيه، يُكتب اسم حسن داود كفصل مضيء من فصول الفن المصري والعربي المعاصر، فصل يروي قصة الانسجام الخلاق بين العقل والروح، بين القلم والفرشاة والعدسة.


