المدينة التي سكتت عن الكلام فجأة ( أوغاريت).. د.غسان القيم.

أوغاريت… المدينة التي سكتت عن الكلام فجأة..
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””

كثيرة هي التساؤلات العميقة المفعمة بالشغف والمعرفة التاريخية والتأملات الحقيقية عن مصير مدينة اعتبرت من أعظم مدن الشرق القديم .. إنها أوغاريت تلك الجوهرة التي سكنت على ضفاف البحر الأبيض المتوسط حيث أنارت ليل التاريخ بحروفها الأولى وألواحها المسمارية التي حفظت بعضاً من أقدم تراتيل البشرية.
ولأني من الذين عاشوا في قلبها وطافوا بين أطلالها وتابعوا بكل اهتمام وشغف تقدم معاول التنقيبات الأثرية..
عندما كان الفجر يسكن مرفأها وحين كانت المراكب تعود من قبرص محملة بالنحاس تتهادى على صفحة البحر الأبيض ثم ترسو برفق عند “ميناء البيضا”، حيث كانت الأيدي السمراء والجباه المحنية تفرغ الكنوز وتعدّها لمخازن القصر الكبير. كان كل شيء في أوغاريت يدلّ على عظمة على ازدهار على نظام اقتصادي وثقافي يكاد لا يضاهى.
في القصر الملكي كانت الألواح الطينية تُسجّل كل شيء: العقود، الرسائل الأشعار حتى المحاكمات. وكان كتبة أوغاريت أصحاب الخط المسماري الأوغاريتي الفريد ينقلون العالم إلى الطين ويحوّلون الطين إلى ذاكرة لا تموت.
في المعبد كانت تراتيل للإله بعل تُرتّل في الغلس تخرج من صدور الكهنة، تمتزج برائحة البخور والصنوبر القادم من الجبال ثم تصعد عالياً مع النوارس التي تحوم فوق المدينة.
أوغاريت لم تكن مجرد مدينة. كانت فكرة، وكانت عقدة وصل بين العالمين: البحر واليابسة التجارة والفكر الشرق والغرب.
لكن…ذات مساء، في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد تغير كل شيء.
توقفت الرياح وخمدت النيران في المواقد. لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف بدأ الأمر: هل جاءت النيران أولاً أم الأرض هي التي اهتزّت بعنف؟.. هل دكّت جيوش غريبة أسوارها؟ أم أن غضباً في باطن الأرض حرّك المدينة حتى سقطت حجارتها على رؤوس أهلها؟
يبدو أن كارثة كبرى وقعت. آثار الحريق واضحة. الجدران المتفحمة والأسقف المنهارة وحتى الألواح الطينية التي انقلبت على وجوهها كما لو أن أحداً كان يهرب ولم يكمل الكتابة. لا رسائل استغاثة وصلت ولا نصوص رثاء كُتبت.
المدينة خُربت وسُكّانها اختفوا… ثم، ومنذ تلك اللحظة صمتت أوغاريت.
السؤال المحقّ الذي كان على ألسنة الجميع.. لماذا لم تُبعث المدينة من رمادها كما فعلت مدن كثيرة في التاريخ؟ أهو زلزال فعلاً؟ هل انزاحت طبقات الأرض وغيرت شكل الساحل؟ هل مات المرفأ فتوقفت التجارة؟ أم أن ما حدث كان أعمق سلسلة من التغيّرات المناخية والاقتصادية والثقافية التي أنهت النظام العالمي القديم ضمن ما يُعرف بـ”أزمة العصر البرونزي المتأخر”؟
ربما تعرّضت المدينة لأكثر من كارثة متزامنة: زلزال ضرب البنية التحتية تلاه غزو أو اضطرابات ثم اختناق اقتصادي بسبب اختفاء طرق التجارة القديمة. وانقطع التواصل مع مصر والحثيين والآشوريين. وماتت أوغاريت في لحظة كان العالم من حولها يتحول.
الغريب أن السكان لم يعودوا. بل لم يحاول أحد أن يُعيد بناء المدينة في موقعها. بقيت الأرض هناك خرساء تنبت الأعشاب بين جدرانها وتتنفس حجارتها رطوبة البحر لقرون.
حتى جاء علم الآثار ليزيح التراب عن ألواحها الفخارية ويُعيد قراءة قصائد بعل وليُذكّرنا أن هناك مدينة ذات يوم علّمت العالم كيف يكتب وكيف يعبد وكيف يُفكر.
ربما كانت أوغاريت ضحية لتحوّل زمني عظيم مرحلة انتقالية عنيفة اجتاحت حواضر الشرق. وربما ستكشف لنا التنقيبات القادمة عن شيء جديد عن رسالة لم تُكتشف بعد أو نقش منسي في ركن ما أو هيكل مطمور لم يُفتح منذ آلاف السنين.
لكن حتى ذلك الحينة ستبقى أوغاريت كما وصفتها لغزاً يحرسه الصمت.
وستبقى هذه المدينة العظيمة لكل من زارها ومن عايش حجارتها ومن سار بين أطلالها أحد شهود هذا الغموض الجميل.

سرد تاريخي
“”””””””””””””””
عاشق اوغاريت.. غسان القيم..

الصورة المرفقة بعدستي منظر عام لمدينة اوغاريت الأثرية يظهر فيها القصر الملكي الكبير ومنازل سكانها وشوارعها..

أخر المقالات

منكم وإليكم