المبدع  العراقي :علي حسن الفواز..كتب عن ..العالم بين الكتابة والتصوير عند سوزان سونتاج..


سوزان سونتاج… العالم بين الكتابة والتصوير

لم تعد الكلمات تُدير العالم، واللغة أخذت بالتحول إلى سيمياء مخادعة، أو إلى علامات سائلة في الفضاء الخوارزمي، يمكن استعمالها في إعادة صياغة غير مسيطر عليها للأفكار، ولوجهات النظر الجديدة، كاشفة عن قابلية التصدي لأسئلة إشكالية تخص الحرب والهجرة والجندر والتشظي الهوياتي، التي تحولت إلى قضايا كبرى، والى صراعات مفتوحة، لا وثائق قارة لها سوى السرديات، حتى هذه السرديات كثيرا ما تبدو خاضعة إلى توريات يدخل في التاريخي والسيروي والأيديولوجي، حيث تُخفي أكثر مما تُظهِر، وعلى نحو يجعل «المتخيل السردي» وكأنه البطل التأليفي الحقيقي لتلك السرديات، ولإدارة العالم عبر لعبة الحكي..
ما تحدثت به سوزان سونتاج، حول أهمية الوثيقة الفوتوغرافية، لا يدخل في سياق الكتابة الضد، ولا في سياق مواز لتلك السرديات، كما يبدو في يومياتها، بل في سياق توسيع قراءة العالم المتحوّل، حيث ترقبه عبر الحكايات والمدونات، التي ينفتح فيها الخيالي على الواقعي، والأيديولوجي على السياسي، والجمالي على القبيح، وهذا ما جعلها أكثر اهتماما بالقضايا التي تخص مشروعها الثقافي، السيري والروائي والوثائقي، حيث تعنى بأنثروبولوجيا «المرأة» عبر مقاربة قضاياها في الجنوسة والحب والسفر والحرية، وباتجاه تمثيل ذلك عبر مدونات/ يوميات جعلت منها سونتاج مجالا للتعرّف على اشتغالاتها السردية، وعلى ما يمور فيها من اعترافات استغرقت يومياتها الكبرى، بدءا من يوميات الحرب الباردة، وصولا لصعود أطروحات الدراسات الثقافية وما بعد الحداثة، وليس انتهاء بما يخص قضايا علاقتها بالحروب وموضوعات الجنوسة والجسدانية والنقد الثقافي.
علاقة سونتاج بوثيقة الفوتوغراف، هي قناع لعلاقتها بموضوعات السرد، وبمحاور الدراسات الثقافية، وهي دراسات أكاديمية وبحثية، أرادت منها جعل الفوتوغراف وثيقة ساندة، ونصا يمكن معالجته كنسق فكري، وعلاماتي يملك القدرة على اصطناع التوازي بين الوثائقي والأدبي، وبما يجعل قيمومته مفتوحة على نقاشات وأسئلة، تخص العلاقة مع السياسة والأخلاق والاقتصاد والاستهلاك والثقافات الشعبية.. ما تحدثت به سونتاج عن موضوع «أصالة الوثائق» لا يعني مجافاة النص الأدبي واستعاراته، وإعطاء الوثيقة نوعا من الهيمنة، والقوة التي تجعله موازيا للسرد في مواجهة تلك الأصالة، رغم أن ما تصنعه مؤسسات «الوثائق الكبرى» يمكن أن يجعل من السرديات أمام خطورة في مواجهة «المحو»، أو الخيال المفرط الذي يُعطي لبطولة الصورة حضورا متعاليا، ومصداقية فائقة تقف بوجه فكرة «الزوال» التي هي فكرة أيديولوجية، أكثر من كونها تمثيلا سيميائيا للأحداث والصراعات..
العالم بين السرد ونهاية الصورة
كراهية الأدب في وضوحه أو غموضه، ليس موقفا خوارزميا مجردا، بل كان تمثيلا ملتبسا لزمن «ما بعد الحداثة» ولـ»الثقافات السائلة» التي تحولت إلى ممارسات طاردة في النقد، وفي القراءة، وفي ربط «الكلمة المطبوعة» بجملة من السياسات التي تؤسس خطابها على أساس افتراضي لـ»نهاية زمن الكلمات المطبوعة» والنزوع إلى تمثيل لعبة السرد عبر الوثائق، أي عبر ما تصنعه المدونات، أو ما تصنعه الصورة الفوتوغرافية من دلالات، ومن إحالات نفسية وسياسية وأيديولوجية. القلق من النهايات تحول إلى رهاب اجتماعي، وإلى وهم بفقدان السيطرة على الهوية، وعلى نحوٍ يُعطى للصورة، مجالا للتعالي، وقوة لمنع الهروب من «الحقيقة» عبر السرد، إذ يحمل السرد كثيرا من المكر والتورية في الترويج لتلك النهايات، رغم أن لا شفاعة للتاريخ سوى أن يلجأ إلى السرد، عبر مدونات السير والمذكرات والأسفار والرحلات والحكايات والروايات، إذ من الصعب توثيق التاريخ أو كتابته خارج ذلك.. وثيقة الصورة ليست بريئة، وليست بعيدة عن المخادعة، لاسيما وأن مؤسسات الرأسمالية، ومنصاتها ومنابرها وتطبيقاتها تملك قدرة فائقة على صناعة تتجاوز السرد، وباتجاه يُعطي لها قابلية التحول إلى وثائق مضادة، وإلى بواعث لها تأثيراتها النفسية، التي تثير الشك بالتاريخ الهوياتي، والعجز عن المنافسة في صناعة النص المضاد، لاسيما النص الأيديولوجي، الذي لا يملك سوى اللغة وليس في الصورة/ السيمياء في إخفاء محمولاته. الهروب إلى الوثيقة، أو عبرها يحمل طابعا مؤسساتيا، بوصفه تمثيلا للسلطة، قبالة أن يحمل الهروب إلى السرد، أو عبره طابعا فرديا، بوصفه تمثيلا للذات، ولحساسيتها إزاء الغائب والمحذوف، أو إزاء الخوف من سلطة الوثيقة، وربما إزاء فكرة الحنين والاحتماء بالحكي، الذي يفترض الإضافة والتخيل وإضفاء السحرية والتعالي عن المحكي عنه.
الوجود وسرديات الصورة
لا يملك التذكر سوى أن يكون شهادة سردية، حية ومتحركة، وهو عكس الصورة التي تعني شهادة بصرية جامدة، أكثر تمثيلا لفكرة الأثر، أو ربما الموت، حيث ثبات الملامح في الزمن، وهذا ما يجعل سردية التخيل أكثر إثارة، عبر الاستدعاء، وعبر إشباع النفس، بما تصنعه من «تخيلات» سردية، ومن رؤى تقوم على إعطاء الحكي طاقة التوليد، وإعطاء الكتابة مجالا تدوينيا لتأطير وجودها كنصوص تُسجّل حكايات العالم والكائن والكينونة، وهي مجال موازٍ للوجود، ولإخراج فكرة الموت من الصورة إلى السرد، حيث يتحول هذا الترحيل إلى «متخيل سردي» نظير للحياة، عبر استدعاء وظائف الراوي أو الحكواتي، أو البطل الذي يواجه الموت، أو اللعب من خلال اصطناع النهايات المفتوحة. هذه الاستدعاءات مضادة للصورة الفوتوغرافية التي تجد في الحائط أو الألبوم يبدوان وكأنهما مقبرة تمثيل مجالها التوصيفي، وليس مجالها النفسي أو الاستثاري والاستعادي كما تصنع الصورة السردية.
كتابات سوزان سونتاج ترصد التغيرات التي يتعرّض لها كائنها، النسوي بشكل خاص، لأنها تجد فيها مثالا لقوة الجسد، وللحب، وأن الجنس هو مجال تعويضي خصب لتمثيل سردياتها، في ترسيم العلاقة مع الرجل، أو مع الأنثى، فبقدر الحديث عن انشغالها بقضايا النسوية، وبأطروحتها الثقافية، وثورتها الجنسانية، فإن ذلك لن يعفيها عن الشك والاتهام بأنها ذات نزعة «مثلية» وأن علاقاتها خاضعة إلى حساسيات معينة، وإلى جرعات عالية من التخيل في هذا المجال، على مستوى صياغة ما تصنعه من حكاية لسيرتها، أو على مستوى رؤيتها للجسد، الذي يتحول إلى مجال إثارة، وإلى شغف يشتبك فيها الشهواني بالأيديولوجي، والتاريخي بالسردي..
انحياز سونتاج للتصوير الفوتوغرافي، لا يعني موت علاقتها مع السرد، إذ جعلته مجالا يتسع لتنوع الاستعمالات، ولمواجهة ما يصنعه «المجتمع الاستهلاكي» من أشكال معقدة للهيمنة، التي تعني التعالي في صناعة سرديات للكاميرا أيضا، فبقدر اهتمامها بهذه التقانة، وهي اختراع كبير، فإنها جعلتها جزءا من شغفها ورغبتها بصناعة «الكائن المكثف»، الذي يملك طاقة فائقة لمواجهة السرديات التي حكمت العالم منذ قرون طويلة، بما فيها سرديات الأسطورة والسلطة والحكاية، وصولا إلى ما يمكن أن نطلق عليه «سرديات الصورة» التي جعلت منها سونتاج عالمها السحري، عالم التذكر والمتعة، ومواجهة النسيان، وصولا إلى ما سمته بـ»المتحف المتخيل» الذي يُحيل إلى تفاصيل يدخل فيها التجريدي بالمتخيل، والديني بالنفسي، وإلى تمثيل رمزي للتاريخ الذي يكون ثابتا في الصورة، ومتحركا في السرد، فهي لم تغادر مشغلها السردي/ الروائي، رغم أنها وجدت في الفوتوغراف عالما موازيا، يجعل من فعل الكاميرا وكأنه رغبة «لا واعية» لصناعة الوثيقة، وللاستغراق في تفاصيل يتناظر فيها سرد الرواية مع سرد الصورة، حيث تكون الصورة هي مجال الزمن المحسوس، والكتابة هي مجال التاريخ المتخيل.
يوميات السرد… يوميات الواقع
ما تقوله سوزان سونتاج عن الكتابة يدخل في سياق مراقبتها للواقع، فهي مهووسة برصد العالم، من خلال الكتابة، بوصفها لعبة في التوثيق، وفي صناعة التاريخ الشخصي، وحتى علاقتها بالصورة الفوتوغرافية لا تخرج عن هذا الإغواء، وعلى نحوٍ جعلت من كتابة اليوميات، وكأنها محاولة مفتوحة على التأويل وعلى شغف المغامرة، لاسيما «مغامرة السفر» والاكتشاف، بوصفها جزءا من لعبتها في مواجهة الموت والنسيان، وفي جعل الأنا الكاتبة نظيرا للأنا المفكرة، التي تجعل من تلك اليوميات مجالا للحضور وللتفكير، وتمثيل الأفكار..
الكتابة، كما ترى سونتاج، نوع من الأنانية، أو محاولة في إعطائها هوية خاصة، تجعل منها قريبة من فكرة مواجهة صخب العالم، بصخب مضاد، صخب تكون فيه اللغة هي القوة المتعالية في تمثيلها، وفي سيميائها، مثلما تكون الأنا الحاضرة هي صانعة الألعاب، أو العين الفوتوغرافية التي ترقب التفاصيل والتحولات والأسرار، وحتى المخفي من ذلك العالم..
في مقدمة كتاب «كما يُسخَّر الوعي للجسد- اليوميات 1964- 1980» ترجمة عباس المفرجي، يتحدث ابنها عن سيرة أمه، عبر حكاياتها في القصص، ومن خلال يومياتها، تلك التي ترصد فيها الزمن والوجود، عبر ما تدونه من يوميات في سيرتها، بما فيها سيرة جسدها المتحول من الشغف واللذة إلى المرض، فكتب الابن عن قصص «مشروع رحلة إلى الصين» و» جولة بلا مرشد» و «رحلة حج» وعن رواياتها «عاشق البركان» و»عدة الموت» و» في أمريكا» حيث تضع القارئ أمام شغف كبير لما تكشفه السرود من عالم حافل بالحياة، ومن فضاءات تحتدم فيها الأفكار والشهوات، وحمّى البحث عن الذات، وعن التوريات التي تحملها اللغة في ممارستها لوظيفة السرد، أو وظيفة التصوير، حيث تكون حياتها الشخصية هي محور العالم الذي تصنعه، وتلتذ بأن تجعله جزءا من كتابة التاريخ الذي يخصها، ويخص الأمكنة التي سافرت إليها، والأشخاص الذين عرفتهم، والصراعات التي عاشتها، والتحولات التي اندفعت إليها، بما فيها تحولات الكتابة ذاتها، فقد وجدت في أطروحات التأويل، وكتابة اليوميات، والفوتوغراف مجالات لصياغة علاقات متعالية مع العالم الذي ظلت ترقبه، وتدون سيرته من خلال يومياته، أو من خلال صوره التي تحتفظ بها، بوصفه وثائق أو شهادات عن الزمن والجسد الذي تتركه متعاليا عند المتحف الافتراضي الذي تصنعه عبر التصوير، أو عبر الكتابة..
كاتب عراقي
*علي حسن الفواز
******
** سوزان سونتاج:
كاتبة أمريكية
سوزان سونتاج (بالإنجليزية: Susan Sontag) (16 يناير 1933 – 28 ديسمبر 2004) ناقدة ومخرجة وروائية أميركية، من أعمالها الروائية “Against interpretation” عام 1966، و”The benefactor” عام 1963، و”styles of radical will” عام 1969، ومن أفلامها كمخرجة “Brother carl” عام 1974. وصل مجموع انتاجها الكتابي إلى 17 كتاب، مابين القصص والمسرحيات وروايتين ومجموعة من الأعمال النقدية، والتي ترجمت إلى 32 لغة حول العالم.
عرفت بنشاطها السياسي إلى جانب نشاطها الأدبي، فناهضت حرب فيتنام، وسافرت إلى مدينة سراييفو للتضامن مع سكان المدينة أثناء حصارها 1989، وعلى إثره منحت لقب مواطنة شرفية. كما نشطت في حقوق الإنسان، ووجهت انتقاداتها للسياسات الأمريكية في أكثر من مناسبة.
عانت سوزان من مرض السرطان 3 مرات في حياتها، إلى أن توفيت به في عام 2004، صدر عن حياتها فيلم وثائقي بعنوان (نظرة إلى سوزان سونتاج)، وكتاب حول سيرتها الذاتية بعنوان (سوزان سونتاج صنع أيقونة) عام 2018، من كتابة كارل روليسون وليزا بادوك.

***&&&***
المصادر:
الموقع الإلكتروني : victory-Jo.com
– الشرق الاوسط – مراسي –
صفحة الفيس  Kerolos M Takla
– صحيفة البيان الإلكترونية
_ الجريدة www.aljarida.com
– صحيفة سبق الإلكترونية- وكتلة سرمد
– النهار – الجريدة – «عكاظ»
الرياض – العربية نت – بي بي سي .كوم BBC.com
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
 – مواقع إلكترونية: المجلة- القدس العبي
الجزيرة+ العربية نيوز – فرانس24/ أ ف ب
– اخبار فن التصوير-  rafik kehali
– الوسط – الألمانية -اليوم السابع
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)
– جائزة هيبا – الإمارات اليوم – القدس العربي
موقع المستقبل – موقع سينماتوغراف   
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
*********

أخر المقالات

منكم وإليكم