الإله (عِشْتَر العاتي). الذي حاول اعتلاء عرش المطر..سرد تاريخي ميثولوجي في ضوء نصوص أوغاريت وتفسير الرموز الزراعية على الساحل السوري. د. غسان القيم.

“عِشْتَر العاتي: الإله الذي حاول اعتلاء عرش المطر..سرد تاريخي ميثولوجي في ضوء نصوص أوغاريت وتفسير الرموز الزراعية على الساحل السوري كما لو أنّ الألواح الفخارية نفسها تنهض لترتّل ما خُبِّئ في مسامعها أربعة آلاف عام.”
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
لم تكن ولادة أوغاريت مجرّد حدث أثري وقع صدفة عندما انغرست سكة محراث فلاح من رأس الشمرة في أرضه بل كانت صحوة كونية أعادت ترتيب النظر إلى الساحل السوري وكشفت عن مدينةٍ ظلت نائمة تحت ترابها تنتظر من يُنصت إلى نبض ألواحها.
ذاك الفلاح محمود ملا الملقّب بـ الزير لم يكن يدرك أنه حين كان يشقّ الأرض بحثًا عن خبز يومه.. كان في الحقيقة يشقّ غطاء الزمن فيوقظ إله الخصب ذاته ويعيد بعل إلى الدنيا بكامل صوته ورعده ورمحه الذي يشقّ السحاب.
ومع أن البعل ظلّ نجم الملاحم والأساطير الأوغاريتية وأمير العاصفة إلا أن ثمّة إلهاً آخر ظلّ في الظل..
عشتر العاتي الإله القاصر عن أن يحكم السماء الذي حاول أن يصعد إلى عرش المطر فخذلته الطبيعة نفسها.
قدّمت النصوص الأوغاريتية صورة واضحة عن بعل الإله الذي يحمل المطر على كتفيه ويهب للزرع حياته. لكن ذات النصوص تهمس باسم إلهٍ آخر أقلّ حضورًا وأكثر التباسًا:
تصفه الأساطير بأنه إله الري الصناعي لا زوجة له أي لا يستطيع أن يملك قوى الإخصاب فهو دون العاصفة ودون المطر ودون القدرة على إنبات الحياة.
ويبدو أن أوغاريت التي كانت تعيش على انتظار المطر وعلى خفق قلوب الفلاحين نحو السماء لم تجد في الري الصناعي ما يكفي لإحياء مواسمها. فالأنهار في الساحل السوري السريعة العميقة المحصورة لم تكن يومًا كالفرات أو النيل حيث يستطيع الإنسان أن يبني أقنية تفيض على الحقول كالعروق.
وهكذا صار عِشتر رمزًا للخصب الناقص للماء الذي لا يكفي.. للسحاب الذي يلمع بالبرق ولا يمنح الأرض قطرة واحدة.
تروي النصوص الميثولوجية وخاصة في ملحمة “بعل وموت” أن بعل حين نزل إلى العالم السفلي وخلا عرشه قامت الإلهة عشيرة يم أمّ الآلهة تفكر فيمن يملأ الفراغ. فيخاطبها كبير الآلهة إيل:
“هاتِ لي واحدًا من أبنائك أجعله ملكًا.”
فتقول:
“إذن ليكن عِشتر العاتي.”

عشتر الإله الذي يحمل اسمه في بعض النصوص اللفظ (ع.ث.ت.ر.ع.ص)، أي عشتر العاتي.
يُقاد هذا الشاب الإلهي ويُجلس على عرش بعل في قمة جبل صفون (الأقرع اليوم).
لكن المفاجأة:
إن رأسه لا يصل إلى قبة العرش
قدماه لا تلمسان موطئه
فيصرخ:
“لن أحكم في جبل صفون”
ثم ينزل عن العرش متواضعًا أو عاجزًا ويقبل أن يكون ملكًا على الأرض فقط.
هنا تبرز الرمزية:
السحاب الذي يلمع بالبرق دون مطر يشبه تمامًا إلهاً يجلس على عرش المطر دون أن يهطل منه شيء.
قدّمت المعاجم العربية القديمة من “لسان العرب” إلى “القاموس المحيط” دلالة مهمة لكلمة “عَرَص” فهي لا تشير إلى “الرمح المهتز” كما ظن بعض الباحثين بل إلى البرق المضطرب السحاب الذي يهيج بلا ماء.
هذه الدلالة تلقّت صداها الطبيعي في الأسطورة:
عشتر = السحاب العارص
بعل = السحاب المُمطر
فالخصب عند أهل الساحل السوري كان مرهونًا بالمطر لا بالأنهار العميقة ولا بالأقنية المحدودة. وكان الفلاح ينتظر عدانه – أوانه وقت نزول المطر الذي به تعيش المواسم. الري الصناعي مهما ابتكر الإنسان ظلّ ناقصًا أمام مياه السماء.
وهكذا بقي عِشتر قاصرًا… كما بقي البرق بلا مطر قاصرًا… كما بقيت الأقنية بلا فيض عاجزة عن إنقاذ الحقول من العطش..
يكشف هذا السرد الميثولوجي عن فهم عميق لطبيعة الجغرافيا السورية:
الري الصناعي قليل الجدوى المطر هو السيد وبعل هو سيّد المطر
وعشتر ظلّ ظلًّا ضعيفًا لسيد العاصفة
وهكذا يُقرأ مشهد عجز عشتر عن ملء عرش بعل بوصفه رمزًا زراعيًا قبل أن يكون حدثًا أسطوريًا.
فالعرش الأكبر من حجمه هو الطبيعة التي لم تبلغها قدرته.
والقصر في الأسطورة هو القصر في الري.
والعجز ..
كانت تماثيل الإله بعل المكتشفة في أوغاريت تجمع بين:
الرمح الذي يرمز إلى الصاعقة
شجرة الزيتون التي ترمز إلى الحياة
وهكذا قدّمته الألواح سيدًا كاملًا: قوةً وخصبًا.
أما عشتر فقد بقي في النصوص بلا زوجة بلا خصب بلا مطر… فلا عجب أن يعود العرش إلى صاحبه الأول.
ظلّت أوغاريت وفية لبعلها لسيد المطر والخصب.
وظلّ الفلاح السوري منذ آلاف السنين وحتى اليوم يقف في وجه الريح يحدّق في السماء وينتظر الغيمة التي تمتلئ بالماء.
فالأرض كما يقول الفلاحون إلى اليوم
“أرض بعل”…
لا تُنبت إلا إذا باركها مطر السماء.
وعشتر بقي شاهدًا على حكمة الأجداد:
أن البرق بلا مطر.. لا يصنع خصبًا ولا يصنع ملوكًا..
سرد تاريخي
“””””””””””””””””
عاشق اوغاريت.. غسان القيم..

مراجع البحث..
“””””””””””””””””””

تقارير ووثائق بعثات التنقيب الأثرية العاملة في موقع أوغاريت..

بعل هداد – حسني حداد وسليم مجاعص

مراجع متخصصة في الدراسات الأوغاريتية

دراسة تحليلية خاصّة بالباحث غسّان القيّم

أخر المقالات

منكم وإليكم