الأديب والتشكيلي: صبري يوسف ..كتب عن الباحث العراقي: ناجح المعموري الذي توفي بعمر 81 عاما.

وفاة الأديب والباحث العراقي الكبير ناجح المعموري عن 81 عاما، وقد التقيته في أربيل خلال اربعينية الأب الراحل يوسف سعيد، كما أجريت معه لقاءً موسّعاً عبر المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح بالتنسيق مع رئيس المنتدى حميد عقبي، ونشرت مقالاً موسعاً عنه في جريدة الوسط الجزائرية عام 2023، وسجّلت هذا المقال في سلسلة برامجي حول الكتاب المسموع ضمن قناة السلام الدولية، وهذا المقال منشور أيضاً ضمن كتابي تجلّيات الخيال – الجزء الثالث!.
الله يرحم الأديب والباحث الكبير الصديق المبدع ناجح المعموري ويسكنه فسيح جناته وخالص التعازي القلبية لابنه الغالي الصديق وهب المعموري ولأهله وأصدقائه ومحبّيه.
صبري يوسف – ستوكهولم


أسَّس الباحث العراقي المبدع ناجح المعموري “منبر العقل” وكشفَ المستورَ عن الأسطورة.

صبري يوسف – ستوكهولم،
ترعرعَ الباحث والنَّاقد العراقي ناجح المعموري في قرية عنّانة، القريبة من مدينةِ بابل، في كنفِ عائلةٍ ريفيّة فقيرة لكنّها كانت غنّية بتغذيةِ آفاقِ الطَّفولةِ وزرعِ بذورِ الطّموحِ في آفاقِ عقلهِ وخيالهِ. كانت طفولتُهُ مخضّبةً بوهجِ الرِّيفِ بصفائِهِ المجنّحِ نحوَ بناءِ إنسانٍ يحملُ فوقَ أجنحتِهِ رؤيةً تغذِّي طراوةَ الخيالِ في مرحلةِ الطُّفولةِ وما بعدَها. تناهَتْ إلى مسامعِهِ أجملَ القصصِ والحكاياتِ، كانتْ تحكيها لهُ جدَّتُهُ في المساءاتِ الطّويلةِ، مصغياً إلى هذهِ الحكاياتِ بشغفٍ كبيرٍ، ويسألُ جدَّتَهُ أسئلةً حولَ زواجِ الفلّاحِ العاشقِ الفقيرِ من الأميرةِ، مركّزاً فيما إذا سيتزوَّجُها ومتى سيحظى بهذا الزَّواجِ؟! وسرعانَ ما كانتْ تجيبُهُ: أجل، سيتزوَّجُها في ليلةٍ من اللّيالي القادماتِ، لكن تمهّل الآن. كانتْ تجذِبُهُ إلى أجواءِ حكاياتِها وتنعشُ خيالَهُ بالأحداثِ المشوِّقةِ، وتزرعُ في عالمِهِ الطّفوليِّ حبَّ الحكايةِ وفضائِها السّاحرِ، وتنامى معَهُ هذا الشَّغفُ في فضاءِ السَّردِ والقصِّ، وكان الجوُّ الرِّيفي بطقوسِهِ المتنوِّعةِ وعاداتِهِ وتقاليدِهِ محفِّزاً على تنميةِ خيالِهِ نحوَ عوالمِ القصصِ والحكاياتِ الشَّعبيَّةِ الَّتي يسمعُها خلالَ مجالساتِهِ في السَّهراتِ اللَّيليَّةِ واللّقاءاتِ في العديدِ من المناسباتِ.
تميَّزَ هذا الكاتبُ والباحثُ الطّموحُ منذُ طفولتِهِ بنزوعِهِ نحوَ طرحِ الأسئلةِ ومعرفةِ الإجابِةِ عن تساؤلاتِهِ. كانَ شغوفاً بالحرفِ والقراءةِ، مختلفاً عن بقيّة أقرانِهِ. انتقلَ إلى بابلَ ضمنَ ظروفٍ صعبةٍ، وما كانَ يستطيعُ الوصولَ إلى المدينةِ مشياً على الأقدامِ خلالَ أيامِ الشّتاءِ الطِّينيّةِ، لأنَّ المسافةَ كانتْ طويلةً بالنّسبةِ لطفلٍ صغيرٍ، لهذا حلَّ هذهِ المشكلةَ بالاعتمادِ على ركوبِ دابّةٍ بصحبةِ أحدِ أقربائِهِ كي تقتحمَ الدّروبَ الطّينيّةَ الوعرةَ الّتي كانتْ تصادفُهُ خلالَ رحلةِ العبورِ، وهذا المشهد، وهو يقطعُ المسافاتِ ما بينَ قريتِهِ وبابلَ على ظهر دابّةٍ، مشهدٌ قصصيٌّ سرديٌّ، أشبه ما يكونُ منبعثاً من وهجِ الخيالِ، ومعَ كلِّ هذه الصُّعوباتِ الّتي كانتْ تعترضُهُ، تابعَ تحصيلَهُ الدِّراسيَّ بحماسٍ كبيرٍ، غير آبهٍ إلّا بتحقيقِ طموحاتِهِ الّتي وضعَها نصبَ عينيهِ، دونَ أنْ يلتفتَ إلى أيِّ شيءٍ آخرَ، وكم اندهشَ مدرسّوهُ عندما علموا أنّه يأتي من مسافاتٍ بعيدةٍ على ظهرِ دابّةٍ في أيّامِ الشّتاءِ وهوَ بهذا العمرِ الطَّريِّ، لهذا حظيَ باهتمامِ المدرِّسينَ بِهِ. كانَ طفلاً طموحاً وفضوليَّاً في تحصيلِ المعلومةِ، يسألُ مدرِّسيهِ عمّا يراودُهُ من تساؤلاتٍ، وما كانَ يقتنعُ في بعضِ الإجاباتِ الّتي تردُهُ من المدرّسينَ، صنَّفَ قسماً منها في خاناتِ الشَّكِّ. وتميّزَ منذُ صغرِهِ بالاختلافِ عن مجايليهِ في رؤاهُ وتطلُّعاتِهِ، مدقِّقاً بما كانَ لا يقتنعُ بهِ. هذهِ الخصوصيّةُ والفرادةُ في شخصيّتهِ، قادتْهُ إلى الغوصِ في أعماقِ الأفكارِ الّتي يقرؤها ويصادِفُها في حياتِهِ. كم كانَ يفرحُهُ كلَّما قامَ مدرّسُ المرحلةِ الابتدائيّة بزيارةِ المناطقِ الأثريّةِ في بابلَ، كانت تبهجُهُ مشاهدةُ هذهِ المناطقِ الأثريّةِ. يقفُ مذهولاً ممّا كانُ يراهُ، متمتِّعاً بروعتِها ومندهشاً بمَن صنعَها وصاغَها بكلِّ تلكَ الجمالياتِ، وظلَّتْ تلكَ الآثارُ الفريدةُ والأماكنُ الأثريّةُ الّتي زارَها محفورةً في ذاكرتِهِ وخيالِهِ، وكم شجّعَهُ أستاذُهُ ناظم البكري على القراءةِ، وقادَهُ إلى فضاءِ المطالعةِ كي يتزوّدَ بالمعرفةِ والفكرِ والثّقافةِ، إذ توسّمَ فيهِ خيراً لما كانَ يمتلكُ من نباهةٍ واهتمامٍ، وساهمَتْ مكتبةُ المدرسةِ في تحقيقِ شغفِهِ في القراءةِ، مركّزاً منذُ بدايةِ يفاعتِهِ على قراءةِ الرّواياتِ والقصصِ والكتبِ التَّاريخيّةِ، فهوَ ابنُ الرّيفِ المترعرعُ على استماعِ القصصِ والحكاياتِ خلالَ المواسمِ والفصولِ والأعيادِ، وقد توفَّرَ في هذهِ الأجواءِ الرّحبةِ مناخُ الاستماعِ إلى حكاياتِ الجدَّاتِ والكبارِ الّتي كانتْ تصبُّ حكاياتُهم الّتي كانوا يروونها في عوالمِ الأساطيرِ والخرافاتِ، ورسّختْ لاحقاً عندَهُ هذهِ الحكاياتُ الشَّعبيّةُ والخرافيّةُ شغفَ البحثِ والغوصِ في مدلولاتِها ومعانيها ورموزِها، وتوقَّفَ مراراً عندَ كيفيّةِ ظهورِها وتأليفها ومغزاها ومرامي دلالاتِها. ودفعَهُ هذا الاهتمام إلى قراءةِ قصص جرجي زيدان، وروايات عنتر وعبلة، وكتابات جبران خليل جبران، قرأ برغبةٍ عميقةٍ “دمعة وابتسامة، والأجنحة المتكسِّرة والنّبي” وغيرَها من كتب جبران، وهذا قادَهُ إلى التَّوغَّلِ عميقاً في قراءةِ الأدبِ والشّعرِ الصّوفي، وإلى قراءةِ الكثيرِ من القصصِ والرِّواياتِ الّتي كانت منتشرةً آنذاك.
بدأ المعموري في بدايةِ توجُّهاتِهِ في الكتابةِ نحوَ فضاءاتِ القصَّةِ القصيرةِ، لأنّها كانتِ الأقربَ إلى عواملِ تشكيلِهِ الفكري والثّقافي والمعرفي، لأنَّ مسقطَ رأسِهِ بفضاءاتهِ الرِّيفيّة، شكّلَ لهُ محطّاتٍ قصصيّةً وسرديّةً، وراحَ ينسجُ من هذهِ الأحداثِ والمشاهداتِ قصصَهُ القصيرةَ، وأوَّلُ قصةٍ كتبَها حملَتْ عنوان: “سكران”، استوحاها من إحدى الشَّخصيَّات المعروفة في قريتِهِ، وبدأ ينشرُ قصصَهُ في بعضِ الصُّحفِ المعروفةِ آنذاك، وشعرَ بسعادةٍ غامرةٍ عندما نشرَ أوّلَ قصّةٍ له في ملحقِ جريدةِ الجمهوريّة، كانَ ينظرُ بنشوةٍ غامرةٍ إلى اسمِهِ وقصّتِهِ، وتوالتِ القصصُ الَّتي كتبَها، إلى أن أصدرَ مجموعتَهُ القصصيّة الأولى: “أغنية في قاعٍ ضيّق” في النَّجف، وسبَّبتْ له بعضُ قصصِ هذهِ المجموعةِ مشاكلَ ومحاكماتٍ لِمَا جاءَ فيها من رؤيةٍ نقديّةٍ فيها بعضُ القدْحِ والذمِّ لشخصيّةٍ من شخصيّاتِ القصّةِ الَّتي كتبها بواقعيّة مفرطة، إلى درجةِ أنّ نتائجها أدَّتْ إلى تحويلِهِ إلى المحاكمِ لمقاضاتِهِ بسببِ ما كتبَهُ من رؤيةٍ ساخرةٍ في حقِّ إحدى شخصيّاتِ قصصِهِ. وتنامت معرفتُهُ واهتماماتُهُ، وأصبحَ لديهِ في بدايةِ السَّبعينياتِ ميولٌ نحوَ التّياراتِ اليساريّةِ، وانخرطَ فيها يمارسُ نشاطاتِهِ وينهلُ من ينابيعِها الفكريّةِ الّتي وجدَها نصيرةً للعمّالِ والفلَّاحينَ والطَّبقةِ الكادحةِ، ويعتزُّ بهذهِ التّجريةِ والانتماءِ. بدأ في تلكَ الفترةِ يكتبُ قصصاً ومقالاتٍ وينشرُها في مجلّةِ طريقِ الشّعبِ، وبعدَ إصدارِهِ القصصيِّ الأوَّلِ، أصدرَ معَ مجموعةٍ من القاصّينَ مجموعةً قصصيّةً مشتركةً بعنوانِ: “الشّمسُ في الجهة اليسرى” في بغداد. مُسبغاً عليها بعضَ الرّموزِ الأسطوريّةِ في شخصيّاتِ وفضاءاتِ قصصِهِ، مستفيداً من الحكاياتِ الشَّعبيّةِ والأسطورةِ في بنائِهِ القصصي والسَّردي. ويعتبرُ ناجح المعموري أوَّلَ قاصٍّ عراقي وظَّفَ الأسطورةَ في متونِ السَّردِ القصصي، وهذا ينمُّ عن ميلِهِ الجامحِ لتكريسِ اهتمامِهِ في فضاءِ الأسطورةِ لما يرى فيها من أهمّيَّةٍ في البناءِ الفنّيِّ والجانبِ الرّمزيِّ بدلالاتِها المتعدِّدةِ، وكتبَ قصّةَ: “شجرة الشّاطئ”، في عنّانة، والشَّجرةُ هي رمزٌ عميقٌ في الدِّياناتِ والأساطيرِ في بلادِ الرّافدينِ وفي أغلبِ دولِ العالمِ، فهي رمزُ الخصوبةِ والانبعاثِ والتَّجُّدُدِ على حدِّ قولِهِ. وبعدَ إصدارِ قصصِهِ، بدأ يغوصُ في عوالمِ وفضاءاتِ السَّردِ الرّوائي، متوغِّلاً في هذا الفضاءِ الّذي وجدَ فيهِ سلواه، فاستجمعَ ما لديهِ من شغفٍ وذكرياتٍ، مُبحراً في خيالِهِ، وراحَ يكتبُ روايتَهُ الأولى “النَّهر”، وقد وظّفَ النّهرَ توظيفاً سياسيّاً واجتماعيّاً وسرديَّاً، وللروايةِ بعدٌ حضاريٌّ وفكريٌّ ومنحىً أسطوريٌّ، كما سبكَ في متونِها الكثيرَ مِنَ التّفاصيلِ والأحداثِ الّتي عايشَها وأضافَ من خيالِهِ ما رآهُ مناسباً لخيوطِ سيرِ الأحداثِ، وأصدرَها في بغداد عن وزارةِ الثّقافةِ. ثمَّ كتبَ روايتَهُ الثّانيةَ الّتي أطلق عليها: ” شرقُ السَّدَّة: شرقُ البصرة” وأصدرَها عن وزارةِ الثّقافةِ، ومنحَها بعضَ الفضاءاتِ الأسطوريّةِ أيضاً، لأنّ ثقافتَهُ مرتكرةٌ على العمقِ الأسطوريِّ للأحداثِ، ثمّ كتبَ روايةَ “مدينة البحر” الصَّادرةُ عن وزارةِ الثّقافةِ أيضاً. وتوجَّهَ اهتمامُهُ خلالَ اشتغالِهِ كمعلّم في محافظةِ الكوتِ نحوَ الفولكلورِ العراقي بكلِّ الموروثاتِ الشّعبيّة، وقد استعانَ بالطُّلَّابِ لجمعِ الأمثالِ والحكاياتِ الشَّعبيّةِ من مناطقِهم، وتبيّنَ للمعموري من خلالِ اطّلاعِهِ على حكاياتِ المناطقِ الَّتي جاءَ منها الطّلَّابُ، أنَّ لكلِّ منطقةٍ طريقةً وخصوصيّةً معيّنةً في قراءةِ وسردِ الحكاياتِ، وقد كانَ الاختلافُ في هذهِ الحكاياتِ مهمّاً وحيويّاً أيضاً، لأنّهُ على حدِّ تفسيرِهِ يُفضي إلى تنوّعٍ في القراءاتِ، وقد انطلقَ من هذهِ النّقطةِ بأنَّ الكاتبَ يستطيعُ أن يعودَ إلى هذهِ الموروثاتِ والحكاياتِ الشَّعبيّةِ، ويستعينَ بها ويوظّفُها في فضاءاتِ السّردِ والكتاباتِ الأدبيَّةِ المتنوّعةِ.
وبعدَ هذهِ القراءاتِ والمتابعاتِ في الموروثِ الشَّعبي، تبيَّنَ للباحثِ المعموري لاحقاً أنَّ بعضَ الموروثاتِ الشَّعبيّةِ هي مغذِّيةٌ للعقائدِ والطُّقوسِ والعاداتِ والأعرافِ، وهي مكوّنٌ أساسيٌّ وحيويٌّ في الأساطيرِ، وفي العقائدِ الدِّينيَّةِ السُّومريّة والأكَّديّة والدّياناتِ الشَّرقيّةِ، وهذا ما قادَهُ أن يقولَ: إنَّ الأسطورةَ ليستْ نصَّاً ثابتاً، بسببِ اهتمامِ كلِّ جماعةٍ بطريقةٍ مغايرةٍ، خاصّةً أنَّ الأسطورةَ غالباً ما كانتْ تنتقلُ شفهيَّاً في غابرِ الأزمانِ من جيلٍ إلى جيلٍ ومن عصرٍ إلى آخر، وكلُّ تجمُّعٍ ومجتمعٍ كانَ يتلقَّاها ويفهمُها بطريقةٍ معيَّنةٍ، لهذا يرى المعموري أنَّ النَّصَّ الأسطوريَّ نصٌّ متحوِّلٌ، يخضعُ لصيرورةٍ مستمرّةٍ ومتحرّكةٍ في كلِّ عصرٍ من العصورِ، إذ بدأتْ تتقشّرُ وتتحوّلُ إلى موروثاتٍ عبرَ التَّاريخِ العراقيِّ الطَّويلِ.
توجَّهَ اهتمامُ المعموري في بدايةِ الثّمانينياتِ إلى الانثروبولوجيا وانصبَّ اهتمامُهُ بالمفكِّرِ وعالمِ الاجتماعِ الفرنسي ليفي شيتراوس/ “ليفي ستروس”، وتوغَّل عميقاً في فضاءاتِ الانثروبولوجيا، وفتحتْ له مجالاتٍ عديدةٍ وسلّمَتْهُ مفاتيحَ دقيقةً لكيفيّةِ التَّعاملِ معَ العقائدِ والطُّقوسِ، والتَّوصّلِ للتماثلاتِ أو الوجودِ أكثرَ من ذاكرة، ومؤكَّدٌ أنَّ الذَّاكرةَ الواحدةَ معبِّرةٌ على وجودِ جماعةٍ ذاتِ طاقةٍ وحيويّةٍ وتمتلكُ ما يساعدُ على المحفّزاتِ ومنها التَّخيُّلُ وإنتاجُ منها ما يختلف عمّا تتمتّع به الجماعات الأخرى، هذا ما أشار إليه مراراً الباحث الكبير ناجح المعموري، وانطلقَ من هذه الرُّؤية في الكثيرِ من تحاليلِهِ ورؤاهُ النّقديّةِ، خاصَّةً ما يتعلّقُ بالأسطورةِ.
لم يتابعْ كتاباتِهِ في السَّردِ القصصي والرِّوائي، وتوجَّهَ إلى فضاءاتِ الأسطورةِ، لأنَّه وجدَ نفسَهُ في هذا الفضاءِ الرّحبِ، خاصّةَّ فيما يتعلِّقُ بالقراءةِ والتّحليلِ والتّأويلِ والحفرِ عميقاً في أبعادِ ومضامينِ وآفاقِ ما تضمَّنَتْهُ الأسطورةُ من تحوُّلاتٍ عبرَ مراحلِ الحقبِ التّاريخيّةِ الَّتي مرَّتْ بِها، مركِّزاً على ملحمةِ جلجامش، وتحليلِها تحليلاً مغايراً لما ذهبَ إليهِ الكثيرُ من المتخصِّصينَ في الأسطورةِ، وأسقطَ على فضاءاتِها الكثيرَ من التَّحاليلِ والمقارباتِ الجديدةِ، مفنِّداً ومحلِّلاً بدقَّةٍ عاليةٍ كيفيةَ نقلِ واقتباسِ الكثيرِ ممَّا جاءَ في الملحمةِ إلى التَّوراةِ، وقدّمَ مقارباتٍ جريئةً جدَّاً وأصدرَها في مجلّداتٍ، ونجحَ في مقارباتِهِ لأنّه اطَّلعَ على كلِّ ترجماتِ ملحمةِ جلجامش، وراحَ يحلِّلُ كل هذهِ التَّرجماتِ على حدةٍ، وقدَّمَ مقارباتِهِ عن الملحمةِ وتأثيرِها على الثّقافاتِ والأديانِ السَّائدةِ على مرِّ التَّاريخِ الَّذي مرّتْ بهِ الملحمةُ، ووصلَ إلى الكثيرِ من التَّحاليلِ الَّتي لم يسبقْهُ إليها دارسٌ واحدٌ بهذا العمقِ الّذي قدّمَهُ في الشَّرقِ والعالمِ العربي، خاصَّةً فيما يتعلَّقُ بالمسكوتاتِ عنهُ في ملحمةِ جلجامش، وكلُّ هذا يقودُنا إلى القول: إنَّ الباحثَ والنَّاقدَ ناجح المعموري نجحَ نجاحاً باهراً في غوصِهِ وحفرِهِ وتحليلِهِ ومقارباتِهِ عن ملحمةِ جلجامش، لأنّهُ اطَّلعَ على كلِّ ما يتعلَّقُ بالأسطورةِ بمختلفِ ترجماتِها وبمختلفِ الدِّراساتِ والتّحاليلِ والتّفاسيرِ الّتي أُجرِيَتْ عنها، وجاءَ المعموري ووضعَ مشرطَهُ على كلِّ النّتوآتِ النّافرةِ واستأصلها وقدّمَ رؤاه بعمقٍ غيرِ مسبوقٍ في الشَّرقِ. وأكثر ما لفتَ انتباهي في تحاليلِ ومقارباتِ المعموري هو أنَّ الأسطورةَ ليستْ نصَّاً ثابتاً، بسببِ اهتمامِ كل جماعة بطريقةٍ مغايرةٍ. وأؤكِّدُ بدوري على دقّةِ ما ذهبَ إليهِ الباحثُ في هذا السِّياقِ على أنَّ تفسيرَ أيّةِ ملحمةٍ سواءً ملحمة جلجامش أو أيّةُ ملحمةٍ أخرى، تتغيّرُ التّفاسيرُ من عصرٍ إلى آخر، لأنَّ كلَّ عصرٍ يفهمُ الأسطورةَ من منظورٍ معيَّنٍ، وتحليلُ المفسِّرِ يخضعُ لثقافةِ المحلِّلِ وللفكرِ السَّائدِ أثناءَ تحليلِ الملحمةِ، لهذا من البديهي أن تتغيَّرَ التَّحاليلُ والتّفاسيرُ تِبعاً لثقافةِ المراحلِ التّاريخيّةِ الّتي تمرُّ فيها الأسطورةُ وثقافةُ الباحثِ أيضاً، وما ينسحبُ على الأسطورةِ، يمكنُ أن نطلِقَهُ على الكتبِ الأدبيّةِ والفكريّةِ والفلسفيّةِ أيضاً، حيثُ لا توجدُ برأيي رؤيةٌ ثابتةٌ وتحليلٌ ثابتٌ ونهائيٌّ حولَ أيِّ كتابٍ، سواءَ كانَ أسطوريّاً أو أدبيَّاً أو فكريَّاً أو فلسفيَّاً، لأنَّ الرُّؤيةَ الّتي يقدِّمُها أيُّ مفكّرٍ وناقدٍ وفيلسوفٍ خاضعة لثقافة هذا المفكِّر أو ذاك، وتتغيَّرُ تبعاً للزمانِ والمكانِ وتبعاً لعمقِ هذا المفكِّر أو ذاك، وهكذا نصلُ إلى أنَّ رأي المعموري بأنَّ الأسطورةَ ليسَتْ نصَّاً ثابتاً، رأيٌ رصينٌ وفي منتهى الدِّقَّةِ والصّوابِ.
لم يكُنْ ذهاب ناجح المعموري إلى فضاءِ الأسطورةِ وملحمةِ جلجامش من أجلِ قراءةِ النّصِّ، بل من أجلِ أن يغوصَ عميقاً في تحليلِ فضاءاتِ الأسطورة بوصفها مشروعاً ثقافيّاً ومعرفيّاً بحسبِ تأكيداتِهِ، لأنّهُ بدأ من خلال قراءاتِهِ العميقة يكتشفُ المسكوتاتِ عنها في الملحمةِ، وراحَ يتحدّثُ عن هذه المسكوتاتِ بجرأةٍ عاليةٍ، لهذا انصبَّ هدفُ المعموري على ما بعدَ قراءةِ الأسطورةِ، متفرِّغاً بأقصى ما يستطيعُ من وقتِهِ، لأنّهُ خطَّطَ بدقَّةٍ كيفُ سيلجُ إلى هذهِ العوالمِ الرّحبةِ، كي يقدِّمَ رؤاهُ وتحاليلَهُ ومقارباتِهِ في فضاءاتِ الأسطورةِ وأبعادِها وآثارِها على التّوراةِ والثّقافةِ السّائدةِ في العراقِ القديمِ حتّى الوقتِ الرَّاهنِ، وأصدرَ في هذا الإطارِ العديدَ من الكتبِ، وفيما يخصُّ التّوارةَ أصدرَ الكتبَ التّالية: “موسى وأساطير الشّرق، الأسطورة والتَّوراة، التَّوراة السِّياسي، أقنعة التّوراة، ملحمة كلكامش والتوراة، تأويل النّص التّوراتي، الأصول الأسطوريّة في قصّة يوسف التّوراتي، التوراة وطقوس الجنس المقدس”. كما أصدر فيما يخصُّ عوالم الأسطورة ما يلي: ” أساطير الآلهة في بلاد الرَّافدين، تقشير النَّص / قراءة في أسطورة انانا. كلكامش وشجرة الخالوب، التفاحة والناي / الأسطورة في كتاب اليوم، كتاب السّاحر، الأطراس الأسطوريّة في الشِّعر العربي الحديث، الجنس في أساطير وأديان الشَّرق، الرَّمز الأسطوري في الفنِّ العراقي / جواد سليم أنموذجاً، هل كان الشاعر ساحراً ؟ الأسطورة في الشّعر، متخيّل الشِّعر في الأساطير/ الأب يوسف سعيد أنموذجاً، المسكوت عنه في ملحمة كلكامش، الجنس والأسطورة في النّحت الحديث، الأصول المصريّة لتابوت العهد، الأطراس الأسطوريّة في السّرد، وغيرها من الكتبِ حولَ عوالمِ الأسطورة كما يراها المعموري. كما أصدرَ الكثيرُ من النّقَّادِ والأدباءِ كتباً عن تجربته الإبداعيّة المتميزة. وكتبَ عن منجزه الثّقافي والمعرفي أكثر من 36 ناقداً وباحثاً أكاديميّاً.
ركَّزَ الباحثُ والأديبُ العراقي المرموق ناجح المعموري منذُ أن تسلَّم رئاسةَ اتّحاد الكتّاب والأدباء في العراق، على استنهاضِ الأدبِ والثَّقافةِ العراقيّةِ من أوسعِ أبوابها، وراحَ يخطِّطُ بكلِّ ما لديهِ من رؤىً خلّاقةٍ لرفعِ رايةِ الثَّقافةِ الجادّةِ عالياً، فأسَّسَ “منبر العقل” وهو منبرٌ غيرُ مسبوقٍ على السّاحةِ العربيّةِ، مركِّزاً على دورِ العقلِ الخلّاقِ في استنهاضِ الثّقافةِ العراقيّةِ والشّرقيّةِ والعربيّةِ من الوضع المتردِّي لأغلبِ الدُّولِ العربيّة، بما فيهم العراقُ، هذا البلد المعروف بعراقتِهِ وحضارتِهِ التَّليدةِ، والمعموري معروف بثقافتِهِ الموسوعيّة في هذه المساراتِ التّنويريّة، وراودَ الكثيرَ من زملائه أنَّ طروحاتِهِ وتوجُّهاتِهِ أشبهَ ما تكونُ أحلاماً وهواجسَ، وبعيدةٌ عن أرضِ الواقعِ الَّذي كانَ يمرُّ فيهِ العراق ومايزال، لكنَّ طموحاتِه الشَّاهقةَ ورؤاه الرّائدةَ وثقته بمجموعةٍ من المبدعينَ والمعنيينَ باستنهاضِ البلادِ، وساهموا بالتّضامنِ معَهُ على تحقيقِ النّجاحِ المأمولِ. ثمَّ ركّزَ على أهمِّيَّةِ “الأمنِ الثّقافيِّ”، واشتغلَ على تحقيقِ الأمن الثّقافي للمبدعينَ والمبدعاتِ في العراقِ، ولم ينسَ أن يوليَ اهتماماً لبحوثِهِ ودراساتِهِ وكتاباتِهِ وندواتِهِ ومحاضراتِهِ والمؤتمراتِ الَّتي يشاركُ فيها باستمرارٍ. ولو اشتغلَ رؤساءُ اتِّحادِ الكتّاب العرب وسائرُ اتحادات الكتّاب العرب في العالم العربي ووزاراتِ الثّقافةِ بهذهِ الرُّؤيةِ لأصبحنا من روّادِ الثّقافةِ في الشّرقِ، وأصبحنا قدوةً للكثيرِ من دولِ العالمِ!
التقيتُ معَ الباحثِ والنّاقدِ ناجح المعموري أوّلَ مرةٍ في أربعينيّة الأب الرّاحل الشّاعر المبدع يوسف سعيد، في ضاحية عينكاوا في أربيل، حيث كنتُ قد تلقَّيتُ دعوةً للمشاركةِ في هذهِ الأربعينيّة من قبلِ وزارة الثّقافة والشّباب، وفكرة هذه الأربعينيّة كانت باقتراحٍ منّي نشرتُهُ آنذاك في جريدة الزّمان الدّوليّة، فتبنّى آنذاك الدّكتور الرّاحل سعدي المالح إعداد اربعينيّةٍ بالتّنسيق مع وزارةِ الثّقافة والشّباب، وكان المعموري أيضاً من المدعوين للمشاركةِ في ملفٍّ عن ديوان الأب الرّاحل يوسف سعيد: “الأرض التّراب السّماء الماء”، الّذي صدرَ عن دار نشري في ستوكهولم، وكم سرّني اللِّقاءُ معَ المعموري، شخصيّةٌ دمثةٌ وودودةٌ إلى أبهى الحدودِ. يُشعرُكَ من أوّلِ لقاءٍ بالمودّةِ والصَّداقةِ والاحترامِ العميقِ، لا تفارقُ البسمةُ وجهَهُ، وعندما يضحكُ تنقلبُ الحياةُ إلى قصيدةِ فرحٍ ومحبّةٍ، وأنا من طبعي سهلُ الانسجامِ مع هكذا شخصيّات رصينةٍ وعميقةٍ ومثقّفةٍ، فأصبحنا أصدقاءَ من الدَّقائق الأولى وكأنّنا نعرفُ بعضنا منذُ سنوات، فدعاني إلى فنجان شاي وكان برفقته الرِّوائي والنَّاقد جاسم عاصي، وفيما كان هذا الأخير يجهّزُ الشَّاي، شطحتُ شطحةً من دون أيّةِ مقدِّماتٍ، وأنا أخاطب المعموري: ألا يوجد في العراق خمسون أو مئة مبدع عراقي، يرشّحونك لرئاسة اتحاد الكتاب والأدباء في العراق؟ ستفوز بجدارة، أنتَ تستحقُّ أن تكونَ رئيساً لاتّحاد الكتّاب والأدباء في العراق، لترفع من مستوى واقعِ الحالِ المهلهلِ، فضحكَ ضحكته الرّائعة، وقال تعال يا جاسم اسمع ماذا يقول هذا المغترب السُّويدي السُّوري صبري يوسف؟! جاء صديقه، وقال لي: قل لجاسم ما قلته يا صبري؟ فقلت له بطريقتي الفكاهيّة: هل “عوجْتُ الطّريق”، بمعنى هل خرجتُ عن آدابِ الحوار؟! ضحكَ وقال، لا بالعكس أنتَ في أرقى آداب الحوار. ضحكتُ بدوري ونافسني في ضحكتِهِ البديعةِ، وقلتُ ما قلتُهُ منذُ لحظات، وعندما سمعني جاسم عاصي، أجابَ قائلاً: أوافق الأستاذ صبري على ما قاله بقوّة. حصل هذا الحوار في نيسان 2012، ودارتِ الأيام وعدتُ أدراجي إلى ربوعِ ستوكهولم، وإذ بعد فترة يتصل بي الأستاذ المعموري من ربوعِ بغداد، قائلاً بشراكَ يا صديقي صبري لقد تحقّقتْ نبوءتك وهو في أوجِ فرحِهِ، فقلتُ له بدعاباتي المعهودة مع الأصدقاء، أية نبوءة يا أستاذ، أنا لدي عدّة نبوءات؟ فضحك وقال أنتَ ليس لديك سوى نبوءةٍ واحدةٍ وهي أنّكَ قلتَ لي يوماً في أربيل، رشّح نفسك لاتّحاد الكتاب، ستفوز بجدارة، وأكّد بقوّة صديقي النّاقد فاضل ثامر على هذا الأمر، وتذكَّرتُكَ حالما طلبَ منّي ذلك، ورشّحتُ نفسي وفزتُ برئاسة الاتّحاد، وتحقَّقتْ نبوءتك الآن. ضحكنا بعمق وقلتُ له ممازحاً: قلتُ لكَ يا صديقي إنَّ لدي نبوءاتٍ فلم تصدِّقني؟ ضحكَ من جديد وقال كيف لا أصدِّقكَ وقد تحقّقتْ نبوءتك، وأنتَ من أوائل من اتّصلتُ معه وأبشّركَ هذه البشرى عن تحقيقِ نبوءتِكَ؟! ..
كم أشعرُ بالفرحِ والغبطةِ أنَّ هذا المبدعَ الكبيرَ ناجح المعموري، صاحب القلب البديع، هو صديقي والتقيتُهُ يوماً بكلِّ الحبِّ في ربوعِ أربيل، فهو مِنَ المبدعين الموسوعيِّين والمتنوِّرين الكبار على السّاحةِ العراقيّةِ والعربيّةِ، ولهذا اختارتْ مجموعة كاسل البريطانيّة للصحافةِ والإعلامِ عبرَ فريقِ التّحريرِ لصحفِها ومجلّاتِها “الشّخصيّة الثّقافيّة العالميّة” للعام 2018 الرِّوائي والمفكِّر والباحث المبدع ناجح المعموري، لأنّهُ خيرُ مَن يمثِّلُ المثقَّفَ التّنويري في العراقِ والشَّرقِ والعالمِ العربي. وأعودُ مؤكّداً على شعوري الغامر بالزَّهوِ وبهجةِ البهجاتِ أنّني التقيتُ يوماً بهذا المبدع الكبير، وكم أشعرُ بالفخرِ وهو يحقِّقُ طموحاتٍ وتوجُّهاتٍ لم يحقِّقْها غيرُهُ على السَّاحةِ العراقيّةِ والعربيّةِ، منها “منبر العقل” والكثير من المشاريعِ الثَّقافيّةِ الأسطوريّةِ الخلّاقة!

ستوكهولم: آب (أغسطس) 2021
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم


******************
المصادر:
– موقع القدس العربي
– موقع الشرق الاوسط
– مجلة الحرف والكلمة
– الإتحاد العربي للثقافة
– موقع سبق
– موقع الجزيرة .نت
– موقع صحيفة عكاظ
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN
.bbc /arabic
– موقع (اليوم السابع)
– موقع موزاييك
–  جريدة الدستور
– موقع العربي الجديد
– موقع : – الجزيرة .نت
– سكاي نيوز عربية – أبوظبي
– موقع سبق- اليوم السابع
– الإمارات اليوم
– العربية .نت – الرياض
-صحيفة الثورة السورية
– موقع المصرى اليوم
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
****

أخر المقالات

منكم وإليكم