ما وراء القناع الفوتوغرافي
مقدمة إلى أرنولد جينثي
مورين ماريانسكي
إعداد وترجمة أميرة ناجي
((التصوير هو السرقة النبيلة للحظة التي لا تعود )) هنري كارتييه بريسون
هذه المقولة الشهيرة تفتح الباب لفهم جوهر مشروع أرنولد جينثي فقد كان يؤمن أن الصورة ليست تجميدًا للوقت بل كشفًا لما يختفي خلف الملامح وما يتجاوز القناع الذي يواجه به الإنسان العالم ولهذا سعى دائمًا إلى الإمساك باللحظة التي يتعرى فيها الجوهر وتتجلى الحقيقة بعيدًا عن التكلّف أو الاستعراض وهي رؤية تتناغم بعمق مع مسيرته التي كرست لكشف الإنسان من خلال عدسة تتنفس الحياة وتركض خلفها
كان أرنولد جينثي أحد أبرز المصورين الأمريكيين في بدايات القرن العشرين ولد في ألمانيا عام ألف وثمانمئة وتسعة وستين وتعلّم فن التصوير بنفسه بعد أن تلقى تدريبًا أكاديميًا في اللغات الكلاسيكية ولم يعرف الشغف الحقيقي بالكاميرا إلا بعد انتقاله إلى سان فرانسيسكو عام ألف وثمانمئة وخمسة وتسعين كمدرس خاص ومع استكشافه للمدينة بدأت الكاميرا تتحول لديه من أداة تجريبية إلى نافذة كاشفة للعالم
الحي الصيني في سان فرانسيسكو كان المكان الذي اكتشف فيه جينثي صوته البصري الأول ففي تنغرينبو التقط مئات الصور العفوية لحياة الشوارع للسكان والتجار والأطفال والمقامرين ومدمني المخدرات وكان عليه أن يلتقطها سرًا إذ كان سكان الحي يختفون عند رؤية الكاميرا وهي ردة فعل فسرها جينثي بأنها خوف من صندوق الشيطان الأسود لكنها في الحقيقة أقرب إلى خوفهم من الترحيل الذي كان يهدد المهاجرين آنذاك ولذلك التقط الصور من زوايا غير مألوفة وانتظر ساعات في الأزقة والمداخل حتى يحصل على لقطة غير مصطنعة
صور جينثي من عام ألف وثمانمئة وستة وتسعين إلى عام ألف وتسعمئة وستة هي التوثيق الفوتوغرافي الوحيد الباقي للحي الصيني قبل زلزال سان فرانسيسكو المدمر فقد دُمّر مرسمه ومعداته خلال الحريق لكن ما يقارب مئتي سلبية نقلت سابقًا إلى قبو بنك فنجت من الكارثة وبعد فقدان استوديوه استعان بكاميرا محمولة ووثق آثار الدمار وهكذا تحولت عدسته من رصد الحياة اليومية إلى رصد المدينة وهي تنهض من الرماد
من أشهر صوره في تلك المرحلة صورة لطفلين يرتديان زيًا إمبراطوريًا أمام متجر للمزهريات ظهرت بنسخة مقتطعة في مذكراته كما أتذكر أما النسخة الكاملة فتكشف حجارة الطريق وعربة ترام سان فرانسيسكو كان جينثي يجري تعديلات على صوره ليخفي أي أثر للمجتمع الغربي في الحي الصيني مثل اللافتات الإنجليزية أو وجوه القوقازيين محاولًا تقديم عالم مغلق على ثقافته الشعبية كما رآه بعين فضولية
بعدها انتقل جينثي إلى عالم الصور الشخصية الذي لمع فيه أكثر ففي سان فرانسيسكو ثم في نيويورك بعد عام ألف وتسعمئة وأحد عشر أصبح المصور المفضل للمشاهير والسياسيين ونجوم المسرح والشخصيات الاجتماعية وقد أسس استوديوه في الجادة الخامسة وجذب نخبة من أشهر الوجوه كان جينثي يؤمن أن الوضعيات الصارمة تخنق الإنسان وتحوله إلى قناع ولذلك اعتمد أسلوب التصوير غير المرئي حيث يلتقط الصورة دون أن يخبر الجالس أمامه باللحظة الحقيقية للضغط على زر الكاميرا محاولًا الإمساك بروح الشخص لا بصلابته الخارجية
من أروع أمثلته على ذلك صوره للممثلة غريتا غاربو عام ألف وتسعمئة وخمسة وعشرين إذ التقط سلسلة درامية تركز على العينين والرقبة والإضاءة العميقة وقد نُسب لهذه الصور فضل كبير في انطلاق مسيرتها الفنية في الولايات المتحدة
ولد جينثي في عائلة محبة للمعرفة وكان يفاخر بأن أفراد أسرته يتحدثون خمس عشرة لغة حديثة وكلاسيكية حصل على الدكتوراه في فقه اللغة ثم جاء إلى أمريكا لمهمة تدريس خاصة لكنه وقع أسيرًا لسحر سان فرانسيسكو وخاصة تانغرينبو الذي عاد إليه دائمًا بحثًا عن مشاهد تباع في الصحف أو تزين المعارض كانت صور مثل ابنة تاجر السمك وجامع الورق تجسد الفقر اليومي لكنها تحمل جمالًا بصريًا لا يمكن تجاهله وبعد نجاتها من الزلزال نُشرت في كتاب صور الحي الصيني القديم عام ألف وتسعمئة وتسعة
وفي نيويورك أكمل مسيرته ووسع اهتمامه ليشمل توثيق الرقص وكان أيضًا رائدًا في التصوير الملون إذ كان من أوائل من استخدم ألواح الأوتوكروم للأخوين لوميير وهذا السبق إضافة إلى مهارته جعلاه بين أكثر المصورين انتشارًا في مجلة فانيتي فير حيث نشرت أكثر من مئة صورة من أعماله خلال عشرين عامًا
كان جينثي مصورًا يتقاطع فيه إرث الرسم الكلاسيكي مع الجرأة التقنية فقد جمع بين حساسية الرسام واندفاع المغامر وبين خبرة اللغوي وفضول الإنسان الذي يبحث عن وجوه الحياة في كل شارع وكل ستوديو وكل رقصه وكل ظل وكان دائمًا يحاول أن يتجاوز القناع الفوتوغرافي ليصل إلى ما وراءه ليصل إلى الحقيقة التي لا يمكن تزويرها


