الصورة… إعادة تأسيس الواقعة، اشتغال لـلمصور “سعد الرحال”

خليل الطيار*
تمثل الصورة في واحدة من أهم أطروحات الفوتوغرافيا – كما وقفتُ عليها في جزء من دراستي حول جماليات التصوير – فعلاً يتجاوز حدود التقاط الأشياء كما هي، أو كما تبدو في لحظتها الواقعية الأولى. فالعين المباشرة، مهما بلغت قدرتها على الملاحظة، تظل أسيرة التكرار والاعتياد؛ تتطبع مع الموجودات حتى تفقد دهشتها الأولى، وتتحول مع الوقت إلى كيان صامت يشغل حيزاً مكانياً بلا أثر يخلخل وعينا أو يوقظ إحساسنا به.

هنا تتدخل الصورة بوصفها أداة استعادة وآلية تأسيس جديدة للواقعة. فالفوتوغرافيا ليست محاكاة للمكان، بل إعادة صياغة لعلاقته بنا. إن فعل الالتقاط، حين ينهض على وعي بصًري وثقافة تشكيلية، يعيد للأشياء حيويتها، وينقذها من موتها البارد داخل المكان، ليمنحها حياة ثانية عبر “واقعية الصورة” التي قد تتجاوز – في شدّها للتلقي – واقعية الشيء ذاته.
زاوية الالتقاط بوصفها انزياحاً في معنى الشيء
اشتغال “سعد الرحال” يقدّم هذا الفهم بعمق. فمجرد تغيير زاوية الالتقاط في تمثال الحارس عند نصب أتاتورك أتاح للصورة أن تخلق خطاباً آخر، مختلفاً تماماً عن الخطاب الذي يرسله النصب في وجوده المكاني المألوف. لقد أعاد “الرحال” بناء علاقة المتلقي بالحارس، متجاوزاً حدود “شيئيته” كعنصر زائد في كتلة النصب، ليمنحه حضوراً ذاتياً يفرض نفسه على العين، ويحتل مركزاً جديداً في التأويل.
لقد بدت هيئة الحارس – كما شكّلها اختيار الزاوية – كأنها تحررت من كونها جزءاً ثابتاً في المعمار التذكاري، لتغدو شخصية متوثبة، يقظة، متأهبة للقيام بواجبها. وتحوّل الجمود البرونزي إلى توتر بصًري يشي بأقصى درجات المراقبة. هنا لم تعد الصورة تسجيلًا للمكان، بل إعادة اكتشاف لروح الشيء الكامنة خلف مادته.
ما بعد التوثيق… نحو وعي فوتوغرافي تشكيلي
لم يتعامل الرحال مع النصب بصفته مَعْلماً سياحياً يستوجب التوثيق، بل كحقل بصًري يحتاج إلى قراءة. وهذه النقطة أساسية في إعادة تأسيس الواقعة: الصورة هنا ليست “ذكرى” بل “قراءة”. وما مكّن المصور من ذلك هو امتلاكه ثقافة تشكيلية استمدت من تجربة طويله، تجعله يوظف العدسة بدل الفرشاة كأداة تأويل لا أداة تسجيل.
إن اختيار اللحظة التي تتقاطع فيها بنية المكان مع رموزه يمثل اشتغالاً نقدياً على الواقع، وليس نقلاً له. فقد ضخم “الرحال” من حضور نظرة الحارس، لا ليعلن التهديد، بل ليحوّل لغة الجندية نفسها إلى خطاب سلام. فالبندقية المرفوعة على الكتف – لا الموجهة نحو أحد – ولا تعمل كرمز قتال، بل كعلامة كبح وضبط. وعندما حطّ الطائر على فوهتها، اكتملت الجملة البصرية: عسكريةٌ مراقِبة، لكن غير عدوانية؛ محمولة في فضاء تتقاطع فيه رمزية الطير مع تطهيرية الغيم.
وبهذا يندمج العنصران، العسكري والطبيعي، ليشكّلا سردية جديدة لا يوفّرها المكان وحده. إنه انزياح كامل للمعنى من “نصب تذكاري” إلى حكاية بصرية تروي إمكانية السلام داخل قلب القوة ذاتها.
الصورة كإعادة تأسيس للمعنى
بهذا الاشتغال، تصبح الصورة إعادة تأسيس للواقعة بمعناها الكامل: إعادة تأسيس للرؤية، وللشيء، وللعلاقة بين المتلقي والمكان. فالعدسة حين تُدار بوعي لا تستعيد الماضي فقط، بل تعيد ترتيب الحاضر. وتقدّم الشيء لا كما أراده النصب أو كما اعتادت عليه العيون، بل كما يمكن أن يكون، وكما يشتهي أن يُرى. إنها سلطة الصورة حين تخلق معنى جديداً، لا يلغِي الأصل، بل يكشف طبقة كانت مختبئة تحت غبار الاعتياد.
خليل الطيار
باحث في الجماليات من العراق


