يدمج أنطونيو إسكوهوتادو.بكتابه بين علم النفس والتاريخ الثقافي والأنثروبولوجيا ضمن إطار فلسفي.

“الفلسفة لغير الفلاسفة”: رحلة استكشاف العقل الغربي

نجيب مبارك

يقدّم أنطونيو إسكوهوتادو، الكاتب والمفكر الإسباني المعروف، في كتابه الجديد “الفلسفة لغير الفلاسفة” (صادر عن منشورات بلانيتا، 2025) عملًا طموحًا وعميقًا يسعى لاستعراض تاريخ الفكر الغربي منذ جذوره الأولى وحتى التيارات المعاصرة. العنوان، الذي يجمع بين الاستفزاز والشمولية، يوحي بمحاولة تقديم الفلسفة بطريقة يسهل الوصول إليها، رغم كونها غالبًا ما تُعتبر معقدة وبعيدة عن التجربة اليومية. ومع ذلك، يظهر العمل أن إسكوهوتادو لا يُبسّط الفلسفة ولا يخفّف من عمقها؛ بل يقدمها بدقة تاريخية ومفاهيمية كبيرة، مُظهرًا ثراء التقليد الفلسفي الغربي وارتباط الأفكار بالسياقات الثقافية والتاريخية المختلفة.

من البداية، يضع إسكوهوتادو إطارًا نقديًا يتجاوز السرد التاريخي البحت. في الفصل الأول حول التفكير ما قبل العلمي، يعرّف القارئ بالعلاقة المعقدة بين السحر والطقوس والعقلانية الناشئة. يميز الكاتب بعناية بين النظرة العرقية الضيقة، وتبسيط الفكر “البدائي”، والظواهر الثقافية التي تتجاوز المنطق الحديث، مؤسسًا نقاشًا حول تفسير الحضارات القديمة والمعاصرة. هذا النهج النقدي، الذي يتحدى تبسيط المجتمعات التي لا تملك الكتابة باعتبارها “أقل تطورًا”، يعكس حساسية منهجية تتجلى في جميع أرجاء الكتاب: فالكاتب يدعو القارئ للاعتراف بتنوع الفكر البشري، متجنبًا الغرور المرتبط بالمنظور الغربي فقط.

يدمج إسكوهوتادو في هذا الكتاب بين علم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ الثقافي ضمن الإطار الفلسفي. فعلى سبيل المثال، عند تحليل الأخطاء المنطقية لدى الأطفال، والجنون، والسحر، لا يكتفي بعرض أفكار مجردة، بل يربطها بظواهر عالمية في الفكر البشري. التأمل في الطقوس والفكر السحري لا يوضح فقط تطور العقلانية تاريخيًا، بل يبرز التوترات بين الرغبة والواقع وبناء المعرفة، مقدمًا بذلك تمهيدًا لموضوعات ستظهر لاحقًا في فلسفة العلوم وعلم المعرفة. هذا الطموح العابر للتخصصات يغني الكتاب، ويظهر أن الفلسفة لا يمكن فهمها بمعزل عن المجالات الأخرى التي تدرس التجربة الإنسانية والثقافة.

تجلّت براعة إسكوهوتادو أيضًا في طريقة تقديمه للفلسفة اليونانية، بدءًا من فلاسفة ما قبل سقراط وحتى أرسطو والسفسطائيين، مع التركيز على السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي غالبًا ما يغيب في المراجع التقليدية. يبرز الكتاب استقلال الفكر اليوناني عن الميثولوجيا، مع الاعتراف باستمرار التفكير الرمزي والحدسي. يحلل إسكوهوتادو فلاسفة مثل فيثاغورس، هيراقليطس، الإلياتيين والذرّيّين بطريقة تجمع بين الشرح المفاهيمي والأبعاد التاريخية، مبرزًا كيف ترتبط الأفكار الفلسفية ارتباطًا وثيقًا بالتجارب الثقافية والبنى الاجتماعية لعصرها. وهنا كذلك تبرز أصالة الكاتب، في تركيزه على الجوانب الأخلاقية والاجتماعية، وليس فقط على التطور المنطقي أو الميتافيزيقي للنظم الفلسفية، مما يمنح القارئ رؤية شاملة للفكر.

من المزايا البارزة للكتاب تقديمه للفلسفة كأداة للحياة وليس مجرد نظرية أكاديمية. ففي القسم المخصص للإرث السقراطي والفلسفة كفن للحياة، يناقش إسكوهوتادو تكوين الشخصية، والفضيلة المدنية، والبطولة الفردية، موصلًا بذلك الفلسفة بالخبرة اليومية والأخلاقيات العملية. بهذا الأسلوب، يبتعد الكتاب عن النظرة الجامدة للفلسفة ويطرحها كوسيلة للمعرفة الذاتية والتنمية الشخصية، وهو ما يتماشى مع التقليد السقراطي للفلسفة العملية ويُظهر رغبة الكاتب في جعل التاريخ الفلسفي أداة فعّالة في الحياة المعاصرة.

يوازن الكاتب بين الوضوح والسعة المفاهيمية، مما يجعل القارئ غير المتخصص قادرًا على فهم أفكار عميقة من دون فقدان السياق النقدي 

أيضًا، عند مناقشة أفلاطون وأرسطو، يظهر إسكوهوتادو قدرته على تبسيط النظم المعقدة من دون فقدان العمق. فهو يوضح نظرية الأفكار المثالية، والنفس، والنظام السياسي في الجمهورية، إلى جانب منطق وعلم أرسطو، بما في ذلك الاستدلال القياسي والتصنيف. هنا يوازن الكاتب بين الوضوح والسعة المفاهيمية، مما يجعل القارئ غير المتخصص قادرًا على فهم أفكار عميقة من دون فقدان السياق النقدي. كما يربط بين المشكلات الميتافيزيقية والأخلاقية للفلاسفة الكلاسيكيين والقضايا المعاصرة، مظهرًا استمرارية أهمية هذه الأفكار.

يشمل الكتاب أيضًا رحلة شاملة عبر تاريخ الفلسفة الرومانية والمسيحية، والفلسفة المدرسية وعصر النهضة، والثورة العلمية التي مثلها كوبيرنيكوس، غاليليو، نيوتن وبايكون، والفلسفة الحديثة مع ديكارت، سبينوزا، لايبنيتز، هوبز، هيوم، لوك وكانط. في كل مرحلة، لا يقتصر إسكوهوتادو على وصف النظريات، بل يحلل السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي نشأت فيه، مبرزًا كيف تعكس النقاشات الفلسفية القلق العملي والطموحات الإنسانية لعصرها. هذا المنهج السياقي يمكّن القارئ من فهم الفلسفة كظاهرة حية مرتبطة بالتاريخ والتجربة، وليس كمجموعة من الأفكار المجردة والخالدة.

في مناقشته لعصر التنوير والفلسفة التجريبية والملخص الكانطي، يوضح الكاتب العلاقة بين النظرية والتطبيق، وتطور المعرفة العلمية والفلسفية، والتوترات بين المثالية والتجريبية. كما يعرض نقد كانط للعقل الخالص والعملي ونقد الحكم بطريقة غير معقدة، مفهومة للقارئ العام، مع ربطها بالسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، مع التأكيد على أهمية الفلسفة في أبعاد متعددة للحياة الإنسانية.

*“مناقشة الكاتب لنيتشه، هوسرل، بيرغسون، هايدغر والفلسفة التحليلية تقدم للقراء فهمًا لكيفية استمرار الحوار الفلسفي مع المشكلات الكلاسيكية ومدى أهميته في العصر الحديث”

أما القسم الخاص بالفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، الذي يضم هيغل، فيخته وشيلنغ، فيُظهر قدرة الكاتب على تقديم هذه الفلسفات المعقدة بتوازن بين الدقة والوضوح، مع التركيز على البنية المفاهيمية للنظم الفلسفية وآثارها التاريخية والاجتماعية. إن الكاتب يواجه التحديات والتعقيدات بدون تبسيط مخل، ما يساعد القارئ على فهم التعقيد الفكري، كما يغطي الفلسفة النقدية للتيارات الهيغلية، والاشتراكية الطوباوية، والبراغماتية والمادية في القرن التاسع عشر، مما يمنح صورة شاملة للتوترات الفكرية والعقائدية التي شكلت الفكر الحديث.

في الجزء المخصص للفلسفات الحياتية والفكر المعاصر، يعرض إسكوهوتادو أهم النقاشات الحديثة، بما فيها الفلسفة الحيوية، الوجودية، الظاهراتية، والفلسفة التحليلية الحديثة. وهو في كل ذلك لا يقتصر على عرض المدارس الفكرية، بل ينتقد أسسها وحدودها ومساهماتها. وهكذا، فإن مناقشته لنيتشه، هوسرل، بيرغسون، هايدغر والفلسفة التحليلية تقدم للقراء فهمًا لكيفية استمرار الحوار الفلسفي مع المشكلات الكلاسيكية ومدى أهميته في العصر الحديث، ملتزمًا بالوضوح من دون التضحية بالتعقيد. فالكاتب هنا يستخدم أمثلة ملموسة، واستعارات تاريخية، ومراجع ثقافية لتسهيل الفهم، مع تجنّب المصطلحات المفرطة. لا يُبسط الفلسفة إلى حد التفاهة، بل يقدم أدوات تمكن القارئ من تقدير كثافة الأفكار وانسجامها وجمالها. كما أن الملاحظات الهامشية والمراجع والشرح النقدي تضيف عمقًا لتجربة القارئ، موفرة طرقًا للتعمق في المواضيع المثيرة للاهتمام.

مع ذلك، قد يربك طول محتوى الكتاب وكثافته (440 صفحة) القارئ غير المتمرس بالفلسفة. فبعض الفصول، خصوصًا في تحليل النظم المعقدة مثل الهيغلية أو ميتافيزيقا أرسطو، تتطلب قراءة دقيقة ومركزة. أيضًا، رغم انتقاد إسكوهوتادو للتمركز الغربي، يبقى سرد التاريخ الفلسفي مقتصرًا على أوروبا، مع إشارات محدودة للفلسفات الشرقية أو الأفريقية، وهو ما يمكن اعتباره محدودية، لكنها مفهومة ضمن هدف الكتاب بتقديم مسار أساسي لتاريخ الفكر الغربي.

من منظور نقدي، يبرع الكتاب في الموازنة بين الدقة العلمية، والوضوح، والعمق الفكري. لا يقتصر إسكوهوتادو على تعليم الفلسفة، بل يدعو القارئ للتفكير في أهميتها، لمراجعة الأحكام المسبقة، وربط تاريخ الأفكار بالحياة اليومية. لهذا فالكتاب يحقق هدفه بشكل كبير: جعل الفلسفة متاحة بدون فقدان غناها وتعقيدها وإمكاناتها التحويلية. إنه دليل للقارئ غير المتخصص للتعرف على التفكير النقدي، والمنطق، والأخلاقيات، وتاريخ الأفكار بطريقة شاملة وغنية.في الختام، يمكن اعتبار “الفلسفة لغير الفلاسفة” كتابًا طموحًا في مجال تبسيط ونشر الفلسفة المعاصرة. إنه كتاب لا غنى عنه للمبتدئين في الفلسفة، ولمن يرغبون في تعميق فهمهم للفكر الغربي، إذ يقدم خريطة مفاهيمية ونقدية تُوجّه، وتتحدى، وتغني القارئ العادي، وتمنحه بوصلة لفهم المحيط الشاسع للفلسفة الغربية، وتاريخ الفلسفة عمومًا، باعتبارها ليست مجرد رفاهية أكاديمية، بل أداة حياتية لفهم أنفسنا، وتاريخنا، وعالمنا.

أخر المقالات

منكم وإليكم