من أعلام المسرح العالمي
المُخرِج الروسي “فسيفولود مييرخولد” (1874 – 1940)
يعدّ المُخرِج الروسي “فسيفولود مييرخولد” (1874 – 1940) علامة هامة في التاريخ المسرحي الحديث، حيث اشتهر بابتكاره منهج “البيو ميكانيك” على أسلوبه الخاصّ في إعداد المُمثِّل والأداء والإخراج، ويُعتبر تطبيقًا لنظريّة البِنائيّة في المسرح، ورَدّة فعل من “مييرخولد” على منهج مواطنه ومعاصره “قسطنطين ستانيسلافسكي” (1863 – 1938) في إعداد الدَّوْر المسرحيّ وتكوين الشخصيّة من خلال الاندماج والانفعال.
مييرخولد في سطور:
- اسمه الكامل “كارل كاسيمير تيودور مييرخولد” واشتهر بكنية “فيسفولود إيمليفيتش مييرخولد”، ينحدر من عائلة ألمانية هاجرت إلى روسيا، وُلد في 24 جانفي 1874 في منطقة “بنزا” الروسية، ومات في الثاني فيفري 1940 داخل السجن.
- زاوج بين الكتابة والإخراج المسرحي
- انقطع عن دراسة الحقوق والتحق بمدرسة “الموسيقى الدرامية” في موسكو تحت إشراف “نيمروفيتش دانشنكو”.
- بدأ مسيرته المسرحية عام 1898، وعُيّن مديرا لمسرح الثورة الروسي سنة 1922
- قدّم ما لا يقلّ عن مئتي عرض مسرحي قبل ابتكاره ومضة “البيو ميكانيك” عام 1923.
- بدأ التضييق على “مييرخولد” سنة 1930، واعتبار الإعلام الروسي البيو ميكانيك مذهبا غريبا وشائنا.
- إغلاق مسرح مييرخولد عام 1938، ودعوته من طرف “ستانيسلافكسي” لإدارة الأوبرا.
- إعتقال مييرخولد عام 1939 وإعدامه عاما من بعد إثر إدانته بـ “التروتسكية” و”التجسّس”.
- قامت المحكمة العليا للاتحاد السوفياتي السابق بإعادة الاعتبار لمييرخولد بشكل رمزي عام 1955.
- شارك كممثل ومخرج في 3 أفلام روسية بين 1915 و1928.
- كان مييرخولد مؤمنا بالمسرح كفن بحد ذاته، موقنا أنّ الهدف يكمن في إيجاد مسرح جديد والانتقال من الطبيعية لمؤسسها ستانيسلافسكي إلى الرمزية التي سعى لتكريسها.
- في النصف الأول من القرن العشرين، اختفى مييرخولد كإرث لما يزيد على العقدين في المسرح الروسي، وكان الحافظ الأمين لكتاباته لحظة هدّدت بالحرق؟ تلميذه الشاب “سيرغاي ايزنشتين” المخرج الذي أعاد تعريف فن السينما في العالم، وأسس ايزنشتين بعد إخراجه مسرحية “العاقل” لأستروفسكي، مدرسة تمثيل خاصة به وسماها “التمثيل المعبّر”، وهي نظرية كانت تطويراً للبيو ميكانيك.
- لا يزال مسرح مييرخولد مؤثراً في المسرح العالمي، على منوال مسرح “شهرزاد” السويدي ومسارح أوروبية وأميركية عديدة، بعدما نهل “بيسكاتور” من مييرخولد عن طريق إلباس ممثليه ملابس وأزياء خشنة ذات زوايا حادة مخالفة لخطوط الجسم البشري وهندسة فسيولوجية الكائن الإنساني، تماما مثل تايروف، فضل عن المخرج الفرنسي “جاك ليكوك” الذي اهتم بشعرية الجسد وبلاغة الحركة.
ولا يمكن ذكر اسم ميرخولد، دون الخوض في اتجاه “البيو ميكانيك” الذي برز مع أوجّ التطور التقني والصناعي في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث جرى اختراع مجموعة من الآليات التقنية، كما تمّ التوصل إلى إيجاد أنواع عدة من الروبوتات المبرمجة ذاتيا.
وأتت البيو ميكانيك في خضّم ثورة الفلسفة الآلية والتقدّم العلمي المتسارع في منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والنظر للممثل والإنسان حينذاك كمجرد دمية أو آلة عضوية بلاستيكية صمّاء تقوم بمجموعة من الحركات الروبوتية للتعبير عن التطور التقني، وللإشارة بشكل مغاير إلى ضآلة الإنسان وقزميته في هذا العالم التقني المتطور.
ماهية البيو ميكانيك: هي كلمة مَنحوتة من Bio التي هي اختصار لكلمة بيولوجيا، وتعني الحيويّة، وMécanique التي تَعني ما هو آليّ، وجمْعُهما معًا يُقصَد به التعامل مع الجسد البشريّ كآلة.
البيو ميكانيك بمثابة الهندسة الحيوية التي تدرس الإنسان الحي على ضوء الفيزياء الميكانيكية. وذلك، بدراسة جسم الإنسان عضويا وفيزيولوجيا وحركيا من أجل رصد طاقته الحركية ضمن قوانين الحركة الديناميكية وقوانين الفراغ، ويعني هذا أنّ البيو ميكانيك تدرس بعمق حركات جسد الممثل في الفراغ.
أما على المستوى المسرحي، فلم يظهر المصطلح إلى حيز الوجود إلا بعد تقديم مسرحية Cuco magnifique التي أخرجها مييرخولد عام 1922 م، واعتبرت علامة بارزة في المسرح الروسي في القرن العشرين، من حيث تركها أثرا بليغا على طريقة التمثيل في تلك الفترة.
دراميا، البيو ميكانيك هي وصفة إجرائية اعتمد عليها مييرخولد في تدريب ممثليه بطريقة بلاستيكية على إنجاز مجموعة من الأداءات التشخيصية على ضوء شعرية الجسد، وممارسة تداريب صارمة لتطويع البدن لكي يقوم بمجموعة من العلامات الحركية التي تشبه الآلة الروبوتية.
استفادت البيو ميكانيكا من تصورات الشكلانية الروسية، ونهلت أيضا من البنيوية التي قتلت الإنسان وجرّدته من قيمه الروحية، ونزعت عنه كينونته الوجودية وهويته الإنسية، كما تأثرت أيضا بالفلسفة الآلية المعاصرة التي آمنت بالعلم والتطور التكنولوجي والتقدم الصناعي.
وتسمى البيو ميكانيك عند البعض بالمجال البلاستيكي، على غرار الباحث المغربي “سالم كويندي” الذي فهم البيو ميكانيك على أنّها “عملية عدم نطق الكلمات وحدها، بل مصحوبة بالحركات، بحيث إنّ الحركة قد تغني عن الكلام مثلما هو في الموسيقى.
وذهب باحثون إلى أنّ مييرخولد أتى بمفهوم (البلاستيكا) من الموسيقار “فاغنر”، معتبرا أنّ البلاستيكا شيء ضروري حتى في المسرح القديم، ورأى أنّ حركات الأيدي، وأوضاع الجسم، والنظرات، والصمت، هي التي تحدد حقيقة علاقات الناس المتبادلة، لأنّ الكلمات لا تقول كل شيء، مما يعني الحاجة إلى رسم الحركات على الخشبة، مادامت الكلمات للسمع، ما جعله يوقن أنّ البلاستيكا هي من أجل العين، لأنّ أفضل ما يعبر عن المشاعر هو الطابع التشكيلي الذي يتم فيه الكلام، وهنا يلعب جسم الممثل دورا أساسيا”.
منظور مييرخولد: نجد عرّاب “البيو ميكانيك” يدعو إلى الممثل الآلة الذي يتحكم في جسده فوق خشبة الركح. ومن ثم، أعلن مييرخولد قائلا:” إن مبادئ المسرح الذي يقوم بالدعاية في مطابقة تامة مع مبادئ الماركسية؛ لأنها تنشد تأكيد أهمية العناصر التي تبرز ماهو مشترك بين كل الناس، اللافرد”.
وطلب مييرخولد ممن يعمل معه من الممثلين، التخلص بقوة من كل شعور إنساني مهذب، وخلق نظام يقوم على قوانين آلية، وابتدع ما أطلق عليه اسم ميكانيكا الأحياء BIO-MECHANICS أو الميكانيكا الحيوية: هندسة الحركة القائمة على الدراسة المتعمقة لجسم الإنسان وقوانين الحركة والفراغ.
وطبّق مييرخولد مسرح البيو ميكانيك في مسرحيته” العظيم ذو القرنين”، وفي مسرحية” المفتش العام” لمواطنه “نيكولاي غوغول”.
وقال “مييرخولد”: “لو قمنا بإزالة الكلمة، والأزياء، ومقدمة الخشبة والكواليس، والقاعة، ولغاية أن يبقى الممثل وحركاته لوحدها، فإنّ المسرح سيبقى مسرحا”.
ويعني هذا الكلام لدى مييرخولد أنّ المسرح ليس خطابا لفظيا أو حواريا، وليس أيضا ديكورا، وليس متعلقا بحضور الجمهور، بل المسرح الحقيقي هو الذي يهتم بتكوين جسد الممثل وإغناء حركاته العضوية والبلاستيكية.
وظلّ “مييرخولد” مقتنعا بوجوب تخليص المسرح مما كان يسميها “هيمنة الكلمة وسلطة الحوار”، وتعويض ذلك بالإيماءات والإشارات والحركات الميكانيكية الآلية، حيث يستبق رد الفعل اللاإدراكي الشعور الذي يصبح بمثابة رد فعل لذلك الفعل اللاإدراكي، وهو الأمر الذي أخذ به ستانيسلافسكي نفسه بعد ذلك؛ حيث طلع علينا بنظرية (الحركات الطبيعية) أو الغريزية.
ويوضح مييرخولد منهجه التدريبي: “البيو ميكانيكا هي عبارة عن تمارين لا يمكن نقلها مباشرة في داخل المشهد، إنها تدريبات خاصة قمت بصياغتها على أساس تجربتي الطويلة وشغلي مع الممثلين. فكنت أقول لنفسي، من الضروري أن يكون هذا الشيء أو ذلك، هذه المسألة أو تلك بهذه الطريقة أو تلك، ومن كل ما جاء في ذلك يمكن أن تستخلص اثنتا أو ثلاثة عشرة نقطة ضرورية في شغل الممثل، والتي يمكن أن يقوم من خلالها استغلال الوسائل التي يمتلكها، وذلك من أجل إيصال وبث الأفكار التي توجد في أساس العرض المسرحي”.
ونظرية البيو ميكانيك عند مييرخولد مفادها: “حقيقة العلاقات الإنسانية والسلوك الإنساني وكذا جوهر الإنسان لا يجب التعبير عنه بالكلمات، لكن بالحركة والإشارة والإيماءة والخطوة والموقف، مثال: في عرض “العظيم ذو القرنين” ازدحم المسرح بتركيب أشبه بالطاحونة، وبعدد من المصاطب والدرج والعجلات، وعلى مثل هذه المنصة يبدو الديكور الهيكلي والممثلون في ملابسهم الزرقاء يجرون ويقفزون ويتحركون بشكل جمبازي.
نسق البيو ميكانيكا: استمَدّ “مييرخولد” صيغة البيو ميكانيكا من الأداء المُنمَّط في الكوميديا دي لارتي، ليس فقط من خلال اهتمامه بإشكالية الارتجال والتعامل مع السيناريو (هيكل تسلسل الأفعال)، بل وكذلك في استقائه من كيفية تعامل الممثل فيه مع الحركة وديناميكية الجسد، وكذلك كيفية استخدام القناع، والتعامل مع الرقص والغناء والعزف في داخل المشهد، سواء في تقديم العرض المسرحي التراجيدي أو الكوميدي.
وأخذ “مييرخولد” من الأداء المُؤسلَب في الكابوكي، ومن نظريّة الإنجليزيّ “غوردون كريغ”G. Craig (1872 – 1966) في تَحويل المُمثِّل إلى دُمية خارقة Sur marionnette، من نظريّة العالِم الروسيّ بافلوف Pavlov حول المُنعكَس الشَّرطيّ، وأطلق مييرخولد نظريته حول (المسرح الشرطي) مثلما أخذ عن النظرية البراغماتية النفعية لوليام جيمس (1915) وجون ديوي، من حيث اعتماده على ما عُرف بـ “تيار الشعور المتصل”.
وأدخل مييرخولد أيضًا تِقنيّات الإيماء على الأداء المسرحيّ مُستوحيًا ذلك من المُمثِّل شارلي شابلن C. Chaplin.
وفي عروض مسرحية مثل “د. دابرتوتو”، جسّد “مييرخولد” في نفسه شخصية شيطانية مبدعة في اللعب العنيف من البناء والهدم، بدءاً من نجاحه في المسرح وانتهاء بالتضحية بنفسه (القربان)، ويتردّد أنّ “مييرخولد” لم يُعدم في موسكو بل نفي إلى معسكر في مجاهل سيبيريا، وهناك أخرج مييرخولد مسرحيات مع رفاقه.
مَهمّات مُحدَّدة:
يرتكز أسلوب البيو ميكانيكا على مَهمّات مُحدَّدة تقتضي أن ينفذها المُمثِّل في مراحل ثلاثة هي: النيّة –التحقيق -رَدّ الفعل، لذا كان مييرخولد يُخضع ممثليه لتداريب وبروفات بلاستيكية صارمة تعتمد على ترويض الجسد، والتخطيط له عضليا وحركيا في إطار الفراغ والفضاء: مكانا وزمانا وإيقاعا.
وساعد هذا الأسلوب المُمثِّل على أن يَتوصّل إلى الدِّقّة والاقتصاد في الحركة، وإلى تجميدها في وَضعيّات ثابتة وجعلها مُنمّطة للغاية مِمّا يُساهم في تكثيف دَلالاتها، وهذا ما يُسمّيه مييرخولد (الغستوس المُعبِّر)، من هذا المُنطلق تُعتَبر هذه الطريقة تِقنيّة أداء خارجيّة تُناقِض أسلوب ستانيسلافسكي القائم على الانفعال الداخليّ، وسعى ستانيسلافسكي إلى توظيف الغستوس في تطويره لتقنيات جسدية
على وجه المقارنة، (الغستوس) عند بريشت يساعد على إظهار الطابع الشعبي للناس، وإظهار الوضع الاجتماعي، كما في مسرحية “الأم شجاعة” التاجرة الحذرة والحريصة على مالها والأم العطوف في الوقت نفسه، وشخصية كاترين عندما تمسّد بإيحاءات حاقدة مريلة أمها، وسروال الرجل الذي يحاول إقناع الأم بالقيام بإدارة الممتلكات معها وبدون كاترين.
وأطلق دارسون على نظرية البيو ميكانيك مسمى “الحيوية الآلية”، وقدّروا باستباق ردّ الفعل اللا إدراكي للشعور الذي يصبح بمثابة رد فعل لذلك الفعل اللا إدراكي، وهو الأمر الذي أخذ به ستانسلافسكي نفسه بعد ذلك؛ حيث طلع علينا بنظرية (الحركات الطبيعية) أو الغريزية.
الممثل في رؤى مييرخولد الاخراجية: على صعيد الإخراج، تُعتَبر مُقارَبة مييرخولد للمسرح مُقارَبة ذهنيّة أكثر منها انفعاليّة، فالبيو ميكانيك يَقوم على الروح الأدائية الجماعية وإلغاء شخصيّة المُمثِّل وفرديّته (كُلّ المُمثِّلين كانوا يَرتدون لِباسًا مُوحَّدًا هو لِباس العمل الأزرق)، كما عمل مييرخولد على إخضاع ذِهن وجسد الممثل لرغبة المُخرِج/المُعلِّم، وَحثّه على بناء الممثل لعَلاقة مع الشخصيّة بشكل يختلف تمامًا عن المُطابَقة الكاملة، وعلى نحو بدا أقرب إلى التغريب.
كذلك، قلّص مييرخولد الخشبة إلى أبسط أشكالها واستغنى عن الديكور التقليديّ، تاركًا لخيال المُتفرِّج عَمليّة بِناء الصورة من خلال التداعيات، مِمّا يَجعل من الجمهور حسب تَعبير مييرخولد “المُبدِع الرابع في العمليّة المسرحيّة”.
من هذا المَنظور يَبدو عمل مييرخولد الإخراجي قائمًا على الأسلبة الكاملة وعلى المَسرحة، وذلك ضمن مَفهوم العُرْف الواعي La Convention Consciente الذي تَبنّاه، وهو ما يُترجَم في اللغة العربيّة بكلمة شَرطيّة.
ويظلّ مييرخولد أبرز أنموذج مارس المسرح في المعامل، والمحطات، والسجون، وفي الساحات العمومية. عاملا على إعداد الجمهور للاحتفال الكبير، وفتح الطريق أمام مسرح جديد. وهو المنحى الذي عمّقه المخرج الألماني “إرفين بيسكاتور” (1893 – 1966) أهم عرّابي المسرح السياسي في العصر الحديث، حيث انتهج “بيسكاتور” المسرح البروليتاري، معتمدا مفهوم المسرح الحكائي المتقطع الى مشاهد مستقلة تسعفه على نقل الخطاب السياسي، شاحذا تصوراته الإخراجية بتقنيات تضفي الحركية على الفضاء المسرحي المعاصر. وهي الاقتراحات التي ألهمت “بريشت” و”فيلار” للربط بين البحث عن إخراج جديد والغوص في طقوس مسرح شعبي أصيل.
مقومات مسرح البيو ميكانيك: يقوم مسرح البيو ميكانيك على مقومين أساسين، وهما: العضوية والحركية الفيزيائية.
أ – العضوية: هي الحيوية والجاهزية في ردود الأفعال الشرطية والانعكاسية.
ب – الحركية فتنصب على حركات الجسد الديناميكية من رأس وعين ويد وجذع وقدم… اعتمادا على الموسيقى الحركية، وقاعدة الفصل والوصل، وقاعدة السكون والحركة، وقاعدة الاتساق والانسجام، وقاعدة الهرمونيا، وقاعدة التحرك المتنوع، وقاعدة الاستجابة البلاستيكية، وقاعدة التحفيز الشرطي، وقاعدة الاعتدال والتوازن، وقاعدة الحيوية، وقاعدة ديناميكية الجسم….
كما أنّ الحركات أنواع: بسيطة أو مركبة، قصيرة أو طويلة، سريعة أو بطيئة، جامدة أو متنامية، مختلة أو متوازنة… ويمكن الحديث أيضا عن بداية الحركة ووسط الحركة ونهاية الحركة.
وبالتالي، تتشكل الفرجة المسرحية من مجموعة من الحركات المترابطة فصلا ووصلا مثل: لقطات الفيلم السينمائي الخاضعة للتقطيع والتركيب. لذا، لابد من إخضاع كل الحركات حسب مييرخولد للتخطيط الحركي.
والغرض من هذا التصنيف الحركي هو تعويد الممثل على اكتساب تقنيات وملكات حركية للتحكم في جسده حسب سياقات الفرجة الدرامية مع اجتناب مبادئ التشخيص والمعايشة الصادقة والاندماج في الدور كما نجد ذلك لدى ستانيسلافسكي.
وثمّة معجم حركي يشغّله مييرخولد كثيرا في كتاباته النظرية والتطبيقية مثل: اتجاه الحركة، شكل الحركة، بلاستيكية الحركة، والحركة في الفضاء (المثلث، والمربع، والدائرة…)، والسرعة، والوقفة، والإيقاع، والتوازن، وتضاد الحركة، والاحتدام الحركي….
وتهتمّ البيو ميكانيك تحديدا بتدريب الممثل على أساس بلاغة الجسد الخاضعة لشعرية الموسيقى، وتمثل قواعد شعرية الترويض البدني عبر تشغيل الميم، والرياضة البدنية، والجمباز، والرقص، واستثمار سيميولوجيا الحركات والإشارات والإيماءات.
والبيو ميكانيك ليست منهجا نظريا، بل هي عبارة عن تمارين بلاستيكية لتدريب الممثل جسديا وحركيا للحد من طغيان الكلمة والحوار والمونولوغ، وتعويض ذلك بالحركات الصامتة المعبرة عن آلية العصر وآلية الإنسان المستلب.
تداريب لا منهج: بالرغم من تنامي البيو ميكانيك، إلا أنّ مييرخولد أكد في كتاباته وأحاديثه، على أنها ليست عبارة عن منهج في طريقة التمثيل، بل مجموعة تداريب تطبيقية لتكوين الممثل جسديا وحركيا.
وشهدت البيو ميكانيكا انتشارا في تداريب التمثيل، وكذلك في العروض المسرحية عند مجموعة من المخرجين في العالم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو بتوظيف كلي أو بشكل جزئي.
ويقول أحمد زكي في كتابه” الإخراج المسرحي”: “لكي يدرب مييرخولد ممثليه على القيام بمثل هذه الأفعال الفذة، طور نظريته عن الآليات الحية، التي تقوم على ما اعتبرها قوانين طبيعية للحركة، والتي علّمت الممثل على أن يستخدم فراغ خشبة المسرح استخداما يفيد فيه من الأبعاد الثلاثة. وقد استخدمت تمرينات الرياضة البدنية والمشي على الحبل وألعاب السيرك لمساعدة الممثل على أن يكتسب حسا كاملا بالعلاقة بين بدنه وبين الفراغ والزمن والإيقاع”.
خواص واستنتاجات:
1 – أقام مييرخولد مسرحه على تدريب الممثل تدريبا شكلانيا آليا وبنيويا، معتمدا في ذلك على البيو ميكانيك أو الميكانيكا الحيوية، ودراسة جسم الإنسان، ورصد قوانين الحركة والفراغ.
2 – ركّز مسرح مييرخولد على فيزياء جسد الممثل ونقطة التوجيه عنده تختلف وفق معادلة من الخارج للداخل أي يستعمل الممثل جسده وطاقاته الإبداعية لتجسيد الشخصية، ولهذا يضيف تطبيقات الجمباز والسيرك واستفاد من نماذج المسارح الشرقية.
3 – البيو ميكانيك هو عرض اجتماعي من أهم مبادئه تنظيم التطبيق الجسدي للممثل والدقة والضبط والأعصاب الفولاذية والشجاعة والاجتهاد والجرأة فهو يعتمد على التمارين القاسية والتمارين الضرورية لإظهار الأفكار المنظمة للجسد والبنائية الميكانيكية.
4 – علّم مييرخولد ممثليه على عدم حاجتهم إلى الانتقالات في البداية، فيجب أن تؤثر الحركة الصحيحة أولا عندها يأتي الانتقال والإحساس الدقيق، كما لقّن مييرخولد ممثليه حتمية عدم الاتجاه إلى الانفعالات.
5 – اعتبر مييرخولد أنّ أي شيء فوق الخشبة هو حركة ولكنها ليست الحركة التجريدية كما يفعل بعض المخرجين، فالانتقالات والكلمات عند مييرخولد ما هي الا جوهر البيو ميكانيك، معتمداً تحرير الممثل من البعد الثالث للخشبة والجدار الرابع.
6 – ركّز على تهيئة ممثليه عبر تمارين خاصة ليتمكن من السيطرة على لعبة الانتقالات الميكانيكية بين الداخل والخارج بحيث يترجم الممثل انفعالاته وأحاسيسه الى حركات ورموز جسدية كلغة مخاطبة من نوع آخر مع المتلقي شرط أن يدرك الممثل بأنه ممثل على خشبة مسرح وجمهور معاً في نفس المكان
7 – حرص مييرخولد على أن يكون ممثليه واعين بما ينجزه في كل لحظة حتى يسيطر على نفسه وجسده وحركاته.
8 – منح ممثليه زيا غير وصفي، فكل التمارين والأزياء لديه تتحرك مع حركة رمزية دقيقة يستعمل فيها أنواع من المستويات ليقدم حالات مختلفة من الفكر للمجتمع.
9 – ناضل من أجل عمق أكبر داخل الفضاء المسرحي، وأعاد قياسات خشبة مسرح شكسبير والعلاقة مع المسرح القديم.
10 – أسهم منهج مييرخولد في استعمال أشكال مسرحية أدائية مختلفة مثل البانتو ميم ومهارة الحركة ودمج القدرة البدنية بالقدرة الذهنية للممثل واستعمال قواعد الفن التشكيلي في العرض المسرحي والسينوغرافيا.
11 – اعتمد مييرخولد على الغروتسك وإحيائه من التراث القديم، للكشف عن الازدواجية الظاهرة للواقع وبشاعته وسخفه، ومزج بين الواعي والخيالي ويربط بين الساخر والمأسوي، مثلما كشف النواقص الأخرى بدقة مما أدى إلى تعميق المعنى الحقيقي لها وارتباطها بالواقع.
إحالة: كلمة غروتسك تعني التباين والتناقض والصراع بين الشكل والمضمون.
12 – قام فن مييرخولد على مزج التقاليد التاريخية بالوظيفة المعاصرة للمسرح.
13 – البيو ميكانيك طريقة في تدريب الممثل لجعله كفئا قادرا على التأقلم والتكيف بذكاء مع مجموعة من الوضعيات الدرامية والإخراجية اعتمادا على مجموعة من المكونات العضوية الحيوية التي يمتلكها كالحركة، والإيماءة، والنظرات، والصمت، والإيقاع، والوضعيات الجسدية.
خاتمة: مما سبق ذكره، يتبين لنا أنّ مييرخولد ابتغى جعل الممثل جزءا من كل يتميز في الإيقاعات، يتناسق فيه الممثلون وأدوات التمثيل وتجهيزات خشبة المسرح والمناظر، ما يجعل البيو ميكانيكا طريقة فريدة في تكوين وتأطير التمثيل والتشخيص، تبعا لاهتمامها بتدريب الممثل على الإتيان بمجموعة من الحركات البدنية، والإيماءات، والإشارات، والنظرات في شكل مجازات واستعارات مسرحية وأيقونات درامية داخل ما يسمى بالمسرح الشامل الذي يجمع بين كل مكونات الفرجة الدرامية.
وإذا كانت تصورات ستانيسلافسكي ذات أبعاد واقعية ونفسانية ترتكز على الداخل الوجداني للممثل الإنسان، فإن رؤية مييرخولد إلى الممثل تقوم على تصورات خارجية وآلية، تربط الممثل بالآلة الحية، أو تدرجه ضمن النسق البلاستيكي الروبوتي المبني على الحركية الديناميكية، وشعرية الجسد، وبلاغة الصمت، وخطاب الفراغ والميم.
ويبقى أسلوب مييرخولد في العمل المسرحيّ تَجريبيًّا بحتًا لعب دَورًا هامًا في تَطوير المسرحين الروسيّ والعالمي، حيث اعتبرت البيو ميكانيك من أهم التصورات المسرحية في الغرب، ومن أهم التقنيات الدراماتورجية في الإخراج المسرحي المعاصر.
انتهاءً، يجمع جمهور الباحثين إنّ البيو ميكانيك صيحة جديرة بالاهتمام؛ لأنها تقوم على ترويض الجسد، وإنماء فن الحركة أثناء تداريب التمثيل والبروفات الإخراجية، ما يؤشر على أنّ البيو ميكانيك علم يهتم بالممثل من الناحية الجسدية والحركية.
إحالات
1 – سالم كويندي: المسرح المدرسي، مطبعة نجم الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:71.
2 – د. قاسم بياتلي: (موقع البيو ميكانيكا في رؤية مييرخولد المسرحية)، مجلة المسرح، القاهرة، مصر، الأعداد من 212 إلى 224، من أوت 2006 إلى أوت 2007م، ص:146.
3 – أحمد زكي: الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1989 من ص:74 إلى 235.
4 – جريدة المستقبل اللبنانية: فعل عبور النص المسرحي الى الخشبة -الثلاثاء 7 نوفمبر 2006 -العدد 2438 -صفحة 18.
5 – د. فاضل الجاف، كتاب: فيزياء الجسد: مييرخولد … ومسرح الحركة والايقاع، دار (المدى) للثقافة والنشر) ط1، (الشارقة: دار الثقافة والإعلام، 2006)، صـ159-160).
6 – أبو الحسن سلام: الحوار المتمدن-العدد: 2725 -2009 / 8 / 1 -09:12


