إبسن- Ibsen
– عندما تدخل شخصيات إبسن إلى المسرح، في مسرحيات: “هيدا غابللر”،”بيت آل روزمرز”،”البطة البرية” و”الأشباح”، فإنها تدخل منهكة، حاملة معها قصتها العائلية التي تطغى على وجودها منذ الولادة. ولا يبقى لهذه الشخصيات إلا أن تلعب نكبتها ونهايتها.- إن ما يبرز في مسرح إبسن هو الشعور بالذنب الذي يستحوذ على نفوس الشخصيات ويلوث وجودها وحاضرها. موضوعيا، إنها لم ترتكب أخطاء كبيرة يمكن أن تلوم نفسها بسببها، اللهم بعض الجبن أو بعض الإهمال أو بعض الإختلاسات البسيطة والعادية. ولكن ذاتيا، فهذه الشخصيات، تشعر بأنها مذنبة إلى أقصى درجة.- فالمأساوي عند إبسن لا يقترن بحادثة أو نكبة تقع خارج إرادة الشخصية، ولكن يتولد عن حالة داخلية وعن تطور نفسي ذاتي. فعلى خلاف “أوديب” لسوفوكليس الذي يظل جاهلا بذنبه إلى آخر لحظات المسرحية، فإن الشخصية الإبسينية تعاني منذ البداية من إحساس داخلي بذنب ربما لم تقترفه.- وقد سمى موريس ميترلينك هذا النوع من التراجيديا الحديثة ب “مأساة السعادة” أو “تراجيديا الحياة الجامدة” التي يعبر عنها المسرح الثابت الستاتيكي والذي ثبت معالمه الأولى هنريك إبسن.- فشخصيتا “هيدا غابللر” و”هيلمار اكدال” شخصيتان تعستان، وتثيران الشفقة، بالرغم من أنهما يعيشان حياة أسرية هادئة وسعيدة، على الأقل ظاهريا. إنها تعاسة أو نحس يستحوذ عليهما ولكن لا يعرفان لا مصدره ولا طبيعته. فالسعادة تبدو في متناولهما لكن لا يستطيعان الإمساك بها، وبدل ذلك فإنهما يشعران بالخزي والعار وبالإحباط والعجز.– إن “المأساوي الحديث” الذي وضع أسسه إبسن لا يقدم للمشاهدة بطلا وقد انهزم في معركة أو حلت به مصيبة أو كان ضحية قدر أعمى، ولكن يقدم لنا شخصيات جامدة ساكنة ظاهريا، لكنها تغلي داخليا مجترة إحباطها ونكبتها في كل لحظة وحين. إنه مسرح لا يركز على الوقائع والأحداث ولكن على الحالة الداخلية النفسية للشخصية. فالأمراض النفسية وعلى رأسها العصاب هي التي استولت على الخشبة عند إبسن.– لقد سبق إبسن، سيغموند فرويد، عندما زود شخصياته المسرحية ببناءات نفسية تتعدى الوعي لتغوص في اللاوعي، بناءات نفسية تتأسس على الضمير الجمعي وعلى الدوافع اللاشعورية.– والدراما العائلية تحولت مع إبسن إلى دراما ذاتية حميمة، حيث العلاقة بالذات وبرغباتها الدفينة ومحركاتها الخفية طغت على علاقة الشخصية بالآخرين. والخطاب الذاتي أصبح له الأولوية على الخطاب مع الغير.– إن المسرح الإبسيني يحافظ على بنية فضاء الدراما البورجوازية: بيت الإستقبال. لكن هذا الفضاء يقلبه رأسا على عقب. فإذا كان بيت الإستقبال العائلي في المسرح البورجوازي، مهددا باستمرار بعوامل خارجية، في أمنه واستقراره، فإن المصائب والمآسي والنكبات توجد أصلا في قلب الفضاء الأسري الإبسيني.– لقد أبعدت السيدة ألفين في مسرحية “الأشباح” إبنها عن البيت لحمايته من وسط الرذيلة والفضيحة الذي ولد فيه، والذي لا يمكن إلا أن يعديه ويلوث حياته.– ففي الظاهر يبدو المنزل الإبسيني هادئا وساكنا ولكنه يخفي في ثناياه مناخا فاسدا، مثقلا بالأخطاء والفضائح الماضية. هذه الفضائح التي تعمل الأسرة على إخفائها والتستر عليها حفاظا على شرفها ومكانتها الإجتماعية.– فكل منازل إبسن تشبه “بيت آل روزمرز” حيث الفضائح الخفية والأخطاء المستترة والزيف الإجتماعي والكذب. إنها بيوت مسكونة بالخزي والعار، بيوت\مقابر.– إن وعي الشخصيات يرزح تحت ثقل قوى خفية وغامضة، فهي تعاني من مشاعر الذنب والخطيئة والإحباط. تفقد الأنا سيادتها وقدرتها على التحكم في أفعالها فتغدو ضحية قوى لا شعورية دفينة.
ستريندبرغ – Strindberg
—– في تقدير الكثير من النقاد، مرت كتابة ستريندبرغ بثلاث مراحل: المرحلة الواقعية، كمسرحتيي (الأب والآنسة جولي)، والمرحلة الرمزية (الطريق إلى دمشق)، وأخيرا المرحلة التعبيرية والسوريالية (الحلم والطريق الكبير.)– وهناك في بنية مسرحياته – والتي ترتبط بشكل أساسي بحياته الفكرية والعاطفية – إنتقال من الخطاب بين الذوات إلى الخطاب الذاتي المحض وإلى العزلة والوحدة والرؤية الكاشفة والحالمة. الإنتقال أو التحول يتم من مسرحية “الرباط” حيث نشاهد زوجين يصفيان حساباتهما الحميمة والشخصية أمام الناس في المحكمة، وبين مسرحية “الطريق إلى دمشق” إذ الشخصية الرئيسية “المجهول” – وهو الكاتب نفسه – تحكي لنا رحلتها الوجودية والروحية متطلعة إلى الخلاص والتحرر. هذان النوعان من الكتابة يتكاملان ويستدعي أحدهما الآخر، على اعتبار أن الكتابة الأولى تصور لنا كيف أن كل واحد منا يحاول إمتلاك الآخر والسيطرة عليه. وفي الثانية يحاول ستريندبرغ أن يرفع هذه المهزلة الإنسانية المخيفة، المهولة، والتي تتمثل في علاقات النفي والإقصاء بين الذوات – وكأنه سيزيف جديد – أن يسمو بها إلى مجال الحلم والتأمل.– وفي مرحلة كان يحاول فيها إبسن الحفاظ على بنية المسرح الكلاسيكي على الأقل على مستوى الشكل الخارجي كقاعة الإستقبال والفصول والمشاهد، فإن ستريندبرغ يقلب قواعد الكتابة الدرامية وبالأخص تقسيم المسرحية إلى فصول وكل فصل إلى مشاهد. إن مسح الطاولة هذا تولد عنه شكل فني آخر هو: المشهد الوحيد.– إذا كان إبسن يركز في مسرحياته على بيوت يسودها تدريجيا الخلاف واللاتواصل ويحكم العلاقة بين الزوج والزوجة الصراع والتوتر، فإن بيوت سترندبرغ منهارة وفاشلة أصلا. فلا توافق ولا تواصل بين الأزواج، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا حتى في المستقبل. فالأزواج محكوم عليهم أن يتعايشوا تحت سقف واحد دون إمكانية التفاهم والإنسجام. بل إن الصراع والحرب الأبديان هما اللذان يحكمان البيوت عند سترندبرغ.– إن فكرة استحالة التصالح والتفاهم الأسري مركزية في أعمال ستريندبرغ، وهو لا يستمدها من تجاربه الشخصية ومن من اخفاقاته وخيباته الأسرية فقط، ولكن يحاول أن ينظر إلى شخصياته من الداخل؛ ويرغب في مشاركتها معاناتها وصراعاتها الداخلية ويتساءل عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة؛ وعن هذا الصراع الأبدي بينهما؛ ولماذا يضطر كل واحد منهما أن يرتمي في أحضان الآخر بالرغم من استحالة إقامة علاقة مودة وعرفان وتواصل.– لقد كان ستريندبرع، طيلة حياته، يدفع عنه تهمة الحمق والجنون. فلم يكن يعاني حسب تصوره سوى من مرض واحد هو الحب. ومن بين أعراض المرض الذي أصاب سترندبرغ، الهلوسات البصرية والسمعية؛ حالات الإكتئاب العميقة والتي تعقبها مباشرة وبدون مقدمات حالات انشراح وفرحة قصوى؛ الإحساس بكراهية غير مبررة؛ الشعور بالإضطهاد والخوف من الغير؛ التوجس والقلق.
تشيكوف – Tchekhov
.– — يكتب تشيكوف إلى المخرج المسرحي ميرخولد قائلا: ” أدعوك لتذكرهذا: إعلم أن أي إنسان ولو كان بطبعه هادئا وسويا، لا يمكنه أن يشعر بالتوتر والسخط والغضب الحاد إلا في بيته وفي حياته الزوجية.”– إن البيت يمثل في مسرحيات تشيكوف جوف هذه الحياة اليومية العمياء، حيث يمتزج الدوار بالتعاسة ويتقاطع التوتر بالتيه. فتطغى الشخصية الضجرة الهاربة من البيت في أعماله. ففي مسرحية “بلاتونوف” يمعن بلاتونوف في إهمال زوجته والهروب من البيت إلى إغراء نساء أخريات، وهذا ايفانوف في مسرحية “إيفانوف” يهمل زوجته المحتضرة. وفيرشينين في “الأخوات الثلاث” يخشى بيته ويهرب من زوجته وأبناءه.– صحيح أن هناك بيتان في مسرحيات تشيكوف: واحد مغلق. والآخر منفتح على العالم الخارجي، حيث الضيوف والعلاقات الإنسانية وحرارة اللقاء مع الآخر: (إيفانوف. بلاتونوف. النورس. الأخوات الثلاث. الخال فانيا. بستان الكرز.) لكن سرعان ما يحل الضجر والتوتر والشعور بالوحدة محل العلاقات الإجتماعية وحرارة اللقاء.
مقتطفات مترجمة عن كتاب: Théâtres Intimes — Jean-Pierre Sarrazacالقنيطرة في — 19 – 12 – 2013العباس جدة
المصدر صفحة المسرح العالمي


