كتب من برلين:عماد خالد رحمة. دراسة نقدية موسعة لقصيدة “قمر المعرّة” للشاعر السوري : توفيق أحمد.

دراسة نقدية موسعة لقصيدة “قمر المعرّة” للشاعر السوري توفيق أحمد :

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

تأتي هذه القراءة النقدية لتضع قصيدة “قمر المعرّة” للشاعر السوري توفيق أحمد ضمن أفقها الأوسع: أفق الشعر العربي الذي يتقاطع فيه التاريخي بالرمزي، والوطني بالميتافيزيقي، والذاتي بالجمعي. فالقصيدة ليست مجرد تحية لرمز من رموز التراث، بل هي محاولة لإعادة تشكيل العلاقة بين الشاعر المعاصر وضمير الأمة ممثلاً في شخصية أبي العلاء المعري؛ هذا الفيلسوف الذي تحوّل عبر العصور إلى رمز للحكمة والجرأة الأخلاقية ومساءلة الزمن.

يمتاز النصّ بثراء دلالي يسمح بتعدد مستويات القراءة؛ فهو نصّ يتجاوز حدود البلاغة إلى بنية معرفية تتداخل فيها السيميائيات مع الذاكرة الوطنية، والهرمنيوطيقا مع البنية النفسية، واللغة الشعرية مع البعد الفلسفي. ولذلك فإن قراءته تحتاج إلى مقاربة متعددة الأدوات، تفتح طبقات النص وتكشف ما تحته من توتر ومجاز ورمز، وتعيد تأويل العلاقة بين الشاعر ورموز المنفى الداخلي والضوء والمحبسين والكوثر والقمح.
وتسعى هذه الدراسة إلى تحليل القصيدة عبر مناهج متكاملة:
١_ هيرمينوطيقية تأويلية تلاحق حركة المعنى داخل النص، وتفكك تمثلات المعري بوصفه “ضميراً حضارياً”.

٢_ أسلوبية تستكشف البنية اللغوية والإيقاع والصورة والتوتر الشعوري.

٣_ سيميائية غريماسية تكشف محاور الأدوار (الفاعل/المفعول/المرسل/المرسل إليه…) وشبكات العلامات.

٤_ نفسية ترصد علاقة الشاعر بالفقد، بالذاكرة، وبصورة الحكيم المخلّص.

٥_ وطنية–تاريخية تضع النص في سياق الذاكرة السورية والعربية، وصراع الضوء والظلام في لحظة حضارية حرجة.
كما تعقد الدراسة مقارنة فنية–انفعالية–تخيلية–لغوية بين هذا النص وبين نصوص أخرى تقوم على بنية العشق، للكشف عن اختلاف مستويات الشغف والمعنى والرمز، وتحديد ما يميز “العشق الرمزي الحضاري” عن “العشق الوجودي الفردي”.
بهذه الأدوات تتشكّل قراءة تحاول أن ترى في القصيدة أكثر من خطاب شعري؛ محاولة لبعث “قمر المعري” من جديد في زمنٍ تتكاثر فيه الظلال ويغيب فيه اليقين. هذه القراءة إذن ليست بحثاً في نصّ فقط، بل بحث في الروح التي يتنفس عبرها النص.

إنّ القصيدة التي بين أيدينا، سواء في بنيتها اللغوية أو معمارها الرمزي أو إشاراتها الوطنية والوجودية، ليست نصاً يُقرأ من سطحه، بل هي نسيج متعدد الطبقات يحتاج إلى تفكيك وتأويل وغوص طويل في طبقاته المعرفية والجمالية. فـ “قمر المعرة” للشاعر السوري توفيق أحمد ليست مجرد تحية لشاعر كبير أو استعادة لرمز؛ بل هي إعادة كتابة للذاكرة العربية، وإعادة بعث لروح أبي العلاء المعري بوصفه ضميراً أخلاقياً وفلسفياً وإنسانياً يقف في وجه العبث والزيف وانهيار القيم.

ولأن النصّ يشتغل على مستويات دلالية متشابكة—من الرمزية إلى الوطنية، ومن النفسية إلى الفلسفية—فإن قراءته تحتاج إلى مقاربة تعددية تتجاوز منهجاً واحداً، وتستند إلى أدوات متقاطعة تسعى لتشكيل صورة شاملة للمعنى.
من هنا تأتي هذه الدراسة التي ستعتمد على خمسة مداخل أساسية:
أولاً: القراءة الهيرمينوطيقية التأويلية.

وهي قراءة تُنصت إلى حركة المعنى داخل القصيدة، وتتعقب كيف ينتقل النص من دائرة الـ”أنا” إلى الـ”هو”، ومن الواقعي إلى التخييلي، ومن التاريخي إلى الإشاري. إذ يُعاد تشكيل شخصية المعري هنا لا بوصفها رمزاً ماضوياً، بل بوصفها حاضراً يتكلم من داخل الزمن العربي المكسور.
سنسائل النص وفق نظريات التأويل، ونتابع كيف يتحول الشعر إلى حدث وجودي تُعاد فيه كتابة الذات والعالم.
ثانياً: الدراسة الأسلوبية:
تحليل البنية اللغوية، ومستويات الانفعال، وبنية الصورة الشعرية، والإيقاع الداخلي الذي يجعل القصيدة تقترب أحياناً من نبرة الابتهال، وأحياناً من نبرة المرافعة الأخلاقية، وأحياناً من نبرة الوجد.
سنقرأ الانزياحات اللغوية، التوازي، التكرار، التشاكل الإيقاعي، وعلاقة الأفعال بالزمن وتحول الضمائر.

ثالثاً: القراءة السيميائية — وفق منهج غريماس:
سنستخرج المحاور الدلالية الأساسية:
١_ الفاعل / الذات: الشاعر، الإنسان الجائع للمعنى، الباحث عن مثال أعلى.

٢_ المفعول به / الغاية: الحقيقة، الحكمة، النقاء الأخلاقي.

٣_ المرسل: التاريخ، الذاكرة العربية، تجربة المعري.

٤_ المرسل إليه: الإنسان المعاصر، القارئ، الشاعر نفسه.

٥_ المساعد / المعارض:
المساعد: المعنى، الشعر، الطهر، النور، الذاكرة.
المعارض: الزيف، الزمان الملوث، الوجوه المتغيرة، الخديعة.
سنفكك العلامات الكبرى:
المعري، الضوء، القمر، السجن، المحبسان، الخيال، القمح، الطين، الكوثر…
لنستخرج شبكتها الدلالية وتفاعلها داخل هندسة القصيدة.
رابعاً: الدراسة النفسية.
سنقرأ البنية الشعورية للنص من خلال مفاهيم علماء النفس و”ظلّ الأمة” و”الأنا الجمعية” و”البطل الحكيم”.
المعري هنا يتحول إلى أب روحي يواجه الفقد، ويمنح للشاعر معنى في عالم مبعثر.
كما سنحلل “عقدة الفقد التاريخي” وعلاقة الشاعر بالأرض واللغة والهوية.

خامساً: الدراسة الوطنية-التاريخية.
سندرس القصيدة في ضوء تاريخ سورية، وذاكرة المعرة، وسياق الثورة، واستخدام الشعراء العرب للرموز الكبرى (المتنبي، المعري، السيّاب…) في لحظات الانكسار أو النهضة.

المعري هنا ليس مجرد شاعر؛ بل “ضمير وطني” يشهد على خراب الحاضر.
والقصيدة تتحول إلى خطاب مقاومة ضد الزمن الفاسد والقيم الملوثة.
سادساً: الدراسة المقارنة.
المستوى الانفعالي:
نجد الشاعر توفيق أحمد ابتعد عن العشق الشخصي/الوجودي واقترب من العشق الرمزي/الوطني/الحضاري

المستوى التخييلي:
ابتعد عن المعمار الأسطوري الفردي واقترب من المعمار التاريخي-الرمزي

المستوى اللغوي:
لم تكن لغة الشاعر توفيق احم. لغة حسية عاطفية، بل لغة فلسفية/رمزية/حكمية

المستوى العضوي:لم يقارب الشاعر توفيق أحمد من بنية الجسد/الروح
واقترب أكثر من بنية الحضارة/التاريخ/الذاكرة.
أهمية الدراسة:
إن جمع هذه المناهج في قراءة واحدة يمنح النص حياة جديدة، ويكشف عن طبقاته المتعددة:
الدينية، النفسية، الفلسفية، الوطنية، والأسطورية.
ويُعيد للمعري حضوره بوصفه “الضمير الحيّ” للثقافة العربية.

ولأن القصيدة تنتمي إلى شعر الأزمة والسؤال الأخلاقي، فإن هذه الدراسة ليست مجرد تحليل، بل إضاءة فكرية على معنى أن يكون الشعر شاهداً على العصر، وأن تكون الكلمة قادرة على اختراق الطين الملوث لتبحث عن جوهر ضائع
تأتي قصيدة «قمر المعرّة» للشاعر السوري توفيق أحمد بوصفها إعادة بعث لروح أبي العلاء، لا عبر استحضاره كشخصية تاريخية، بل كـ ضمير أخلاقي ورمزي وفلسفي ظلّ يشهد على انكسارات الزمن العربي ومحنته الوجودية. ولأن الشاعر يعيد تشغيل رمز المعري داخل سياق عربي منكسر، فإن النص يتحوّل إلى مرآة تاريخية تستعيد سؤال العقل والحرية والمصير.

لقد اتبعت في هذه الدراسة منهج مقاربة متعددة المناهج:
الهيرمينوطيقية، الأسلوبية، السيميائية، النفسية، الوطنية–التاريخية، والمقارنة داخل تراث المعري نفسه.
وتهدف إلى تفكيك طبقات النص وتفاعلاته، واستكشاف كيف تحوّل المعري في وعي الشاعر من «شاعر» إلى «قمر»، ومن «تاريخ» إلى «ضمير حيّ».
الفصل الأول: القراءة الهيرمينوطيقية التأويلية

  1. النص بوصفه حدثاً وجودياً
    تتعامل القصيدة مع المعري لا بوصفه رمزاً ماضوياً، بل بوصفه حضوراً متجدداً. فالشاعر لا يستدعيه ليؤرّخ له، بل ليجعله صوتاً معاصراً يتكلم من داخل خراب اللحظة العربية.
    وفق العديد من المقاربات ، يصبح الشعر حدثاً يكشف الوجود، والمعري هنا «كاشف للرؤية» لا «مناسبة تاريخية».
  2. جدلية الضوء والعتمة:
    القمر، في عنوان القصيدة وبنيتها، ليس ضوءاً فحسب؛ إنه:
    ١_ ضمير
    ٢_ حكيم
    ٣_ شاهد
    _ علامة على العقل والنزاهة:
    والعتمة تمثل:
    ١_ فساد الزمن
    ٢_ قسوة التاريخ
    ٣_ الظلم الاجتماعي
    ٤_ الخذلان الأخلاقي
    يشغل الضوء مساحة التأويل الأخلاقي، بينما تمثل العتمة «العطب» الذي يحاول النص تجاوزه عبر استدعاء المعري.
  3. حركة الزمن داخل النص.
    نلاحظ:
    ١_ انتقال من الماضي (المعرّي)
    ٢_ إلى الحاضر (انكسار العرب)
    ٣_ إلى المستقبل (حلم بالنهضة)

هذه الحركة الدائرية تكوّن ما يطلق عليه «زمن النص»: الزمن الذي يخلقه الشعر بديلاً عن الزمن التاريخي العادي.

  1. المعري بوصفه رمزاً للوعي الأخلاقي:
    النص يعيد تشكيل المعري كـ:
    ١_ حكيم
    ٢_ ثائر
    ٣_ منقذ
    ٤_ شاهد
    ٥_ قاضٍ أخلاقي
    وهذا يعيد إنتاجه ضمن «الأنا» الجماعية العربية.
    الفصل الثاني: التحليل الأسلوبي
  2. بنية اللغة:
    لغة النص مشحونة بـ:
    ١_ الانزياحات
    ٢_ الاستعارات
    ٣_ الصور الكونية
    ٤_ الرموز الروحية
    ٥_ الإيقاع الداخلي
    يتعمّد الشاعر توفيق أحمد إضفاء شفافية على اللغة لتكون بمستوى قداسته للمعري.
  3. الإيقاع الداخلي:
    ليس النص موزوناً بالمعنى العروضي الكلاسيكي، لكنه موزون بنبرة وجدانية–فلسفية، من خلال:
    ١_ التكرار الدلالي
    ٢_ التوازي التركيبي
    ٣_ جمل قصيرة متوترة
    ٤_ إيقاع نداءات واستحضار
    هذا يمنح القصيدة شكل «تراتيل» للمعري.
  4. الصورة الشعرية:
    تتكرر صور:
    ١_ القمر
    ٢_ السفر
    ٣_ السجن
    ٤_ الظلام
    ٥_ الطين
    ٦_ النور
    ٧_ الحكمة
    هذه الصور تُعيد تشكيل رؤية الشاعر للمعري ككائن من ضوء في زمانٍ يتهدله الظلام.
  5. ضمائر الخطاب
    يتنقل الشاعر بين:
    هو (المعري)
    نحن (العرب/الحاضر)
    أنا (الشاعر)

مما يعكس تعدد مستويات الوعي والهوية داخل النص.

الفصل الثالث: القراءة السيميائية — وفق منهج غريماس

  1. المربع السيميائي:

يتشكل المعنى حول قطبين:
أ. النور / العتمة
نور المعري = الحقيقة
عتمة الزمن = الفساد
ب. الحرية / القيد
المعري كرمز للتحرر العقلي:
الواقع العربي كقيد للروح والفكر.

  1. الوظائف الغريماسية:

١_ الذات (الفاعل): الشاعر/الإنسان الباحث عن معنى.

٢_ الموضوع (الغاية): الحقيقة / الحرية / النقاء

٣_ المرسل: التاريخ العربي / الذاكرة / الحكمة

٤_ المرسل إليه: الشاعر / القارئ العربي

٥_ المساعد: الضوء – الحكمة – الشعر – الذاكرة

٦_ المعارض: الظلم – الجهل – الانكسار – السياسة الملوثة .

  1. الرموز الكبرى:
    القمر = العقل/البصيرة/الضمير
    العمى = بصيرة مضاعفة لا نقيصة
    الطين = العالم الفاسد
    الكوثر = نقاء الحكمة
    المحبسان = وحدة المصير الإنساني

الفصل الرابع: الدراسة النفسية.

  1. المعري بوصفه “الذات العليا”
    وفق علم النفس الجمعي، يتحول المعري إلى الأب الحكيم ، رمز المعرفة العليا التي يلجأ إليها الإنسان حين ينهار العالم من حوله.
  2. عقدة الفقد التاريخي.
    النص يعبر عن فقد جماعي:
    ١_ فقد الحرية
    ٢_ فقد العقل النقدي
    ٣_ فقد النزاهة
    ٤_ فقد الدور الحضاري
    وهذا ينسجم مع مفهوم يونغ عن الظلّ الجمعي.
  3. الشاعر بين “الخوف” و”البحث”
    النص يكشف توتراً داخلياً:
    ١_ خوف من الانهيار

٢_:بحث عن مرشد

٣_ قلق وجودي

٤_ رغبة في الخلاص
المعري هنا يصبح علاجاً نفسياً للذات العربية.

الفصل الخامس: الدراسة الوطنية–التاريخية.

  1. المعري بوصفه شاهداً على سورية
    بما أن المعري عاش في سورية وعانى من الظلم، فإن استحضاره هنا يرمز إلى:

_ تاريخ سورية الثقافي

_ مقاومتها للظلم

_ أصالتها العقلية

_ عمق جراحها المعاصرة
النص يحمل شحنة وطنية واضحة، تتجلى في إعادة المعري بوصفه رمزاً للكرامة العقلية.

  1. التاريخ العربي كقيدٍ على الروح

القصيدة تقول ضمنياً:
ما زال العرب يعيشون في «المحبس الثالث» الذي حذّر منه المعري.

  1. وظيفة الشاعر في الأمة
    الشاعر هنا ليس راوياً بل:

١_ مؤرّخاً أخلاقياً

٢_ حارساً للذاكرة

٣_ منبهاً للضمير
والمعري يصبح «الجذر» الذي يعيد الشاعر زرع معنى الأمة فيه.
الفصل السادس: المقارنة داخل تراث المعري نفسه.

  1. بين معرّي الماضي ومعرّي توفيق أحمد
    معري الماضي = نقد لاذع، عقل، زهد، حكمة، احتقار للزيف

معري توفيق أحمد = نور، قمر، مرشد، رمز للخلاص، ضمير
الشاعر يعيد تشكيله بلمسة وجدانية–وجودية.

  1. العلاقة مع «لزوميات» المعري
    تستحضر القصيدة روح اللزوميات من حيث:
    ١_ الاحتكام إلى العقل

٢_ نقد الزيف

٣_ الانتصار للأخلاق

٤_ رؤية تشاؤلية مشرقة بالمعنى

  1. المعري في المخيال العربي:

يقف المعري دائماً رمزاً لـ:

١_ الحرية الفكرية

٢_ الوعي الأخلاقي

٣_ العقل الفلسفي
وتوفيق أحمد يؤكّد هذا الرمز ويضيف عليه بعداً وطنياً حديثاً.
الخاتمة:

تقوم قصيدة «قمر المعرّة» على استعادة أعمق روح في التراث العربي: روح أبي العلاء بوصفه ضمير العقل وشاهد العصور.
ومن خلال قراءة هيرمينوطيقية–أسلوبية–سيميائية–نفسية–وطنية، يمكن القول إن النص ليس مجرد قصيدة رثائية أو استذكارية، بل هو احتجاج شعري على الزمن العربي ومحاولة لإعادة صياغة الوعي عبر رمز من أنقى رموز الثقافة.
إن المعري، كما يراه توفيق أحمد، ليس ماضياً بل مستقبلاً مؤجلاً.
ليس تاريخاً بل فضاءً أخلاقياً.
ليس شاعراً، بل «قمراً» يحتاج العرب إلى ضوئه كي يعثروا على الطريق في ليلهم الطويل.

نص القصيدة:

قمـر المـعـرة
شعر: توفيق أحمد

قلبي الكفيف، وأنتَ أنتَ المبصرُ

لِمَ لا أرى، والكون حولي مُقمر؟

أَشْعَلْتَ لي مصباحَ ظنِّكَ كي أرى

فرأيتُ دربي والُهداةُ تعثّروا

هذي الطقوسُ وأنتَ لغزُ توجسي

بالشك تنكشف الأمور وتظهر

المحبسان، وكنتَ في قفصيهما

نسراً يطلُّ على الخيال ويخطرُ

كلُّ السجون دخلتَها إلا ّ الخيا

لَ دخلتَه قفصاً وأنتَ محرّرُ

لمَ تَسْعَ يوماً للتكسُّبِ، إنما

أعْطيْتَ ما لم يُعْطِ بحرٌ يهدرُ

قلبي الكفيفُ، وأنتَ أنتَ قصيدتي

وبكل حرفٍ من كتابِكَ أسْطُرُ

ذنبي كذنبكَ أننا لا ننتمي

إلاّ إلى الأسمى به نتجذّرُ

أنا يا رهين المحبسينِ محاصرٌ

عطشى صباباتي ونبعُكَ كوثرُ

أنا مثلُ كلِّ بني الخليقة جائعٌ

وعلى حدود يديِّ قمحُكَ بيدرُ

قُلْ للمعرة أيَّ ذنبٍ قد جَنَتْ

وبأيِّ آلاءِ البيان سَتَغْفِرُ

آتٍ إليكَ وفوق ريش جوانحي

سنواتُ عمرٍ ضائعٍ تتكسّرُ

فاكتمْ عليَّ إذا سألتكَ: من أنا؟

عشبٌ أنا، أنتَ الغمامُ الممطرُ

يا من أسأتَ الظنّ في هذا الورى

في ظنّك الصدقُ الذي لا يُنكَرُ

ماذا تقول لأوجهٍ، حرباؤها

في كل وقتٍ لونُها يتغيّرُ؟

هذا زمان الشامتين ببعضهم

لا قمح في كيس المحبّة يُبذرُ

قم واشهد الدنيا تلَوّثَ نبعُها

في طينِها العبثيّ ضاع الجوهرُ

إلاّك يا قمَر المعرة، لم تزلْ

أغصانُ ضوئك كلّ يوم تُزهرُ

مازال «سقْطُ الزّندِ» يحملُ زَنْدُهُ

سيفُ الخلودِ على الرزايا يُشْهرُ

أمّا «اللزومياتُ» تلك خزانةٌ

بَقيتْ مرايا من ضياءٍ تأسِرُ

ماذا أقولُ وبيننا لغةُ النّدى

من ثغرِ زهركَ حولنا تتقطّرُ

الشعر مئذنةُ الخيالِ، وأنت في
صهواتها العُليا الإمام يُكبِّرُ

هذي المعرّة لم أزُرْها دائما
إلا لأنك غصنُها المخضوضرُ

قلبي الكفيفُ، وأنتَ أنتَ المبصر

لِمَ لا نرى، والكونُ فينا مقمرُ؟

لأبيكَ أن يجني عليك ولي أنا

أنيّ على شرفاتِ جرحِكَ أسهرُ

للناس أن يجدوكَ تُهمةَ عاشقٍ

لم يدر كيف يفيض طرفٌ أحورُ

للمُلْكِ والملكوت أن يتعانقا

وأنا بنزف قصيدة أستأثرُ

هي كلُّ ما أبقيتَ لي من غُصةٍ

في الكأس يُسكرها الحنينُ وأسكرُ

أخر المقالات

منكم وإليكم