كتب:د.عصام عسيري.عن هندسة العاطفة (قراءة بصرية في نظريات ) الشاعر والناقد الإنكليزي والامريكي “ت.س.إليوت”.

هندسة العاطفة: قراءة بصرية في نظريات “إليوت”

د. عصام عسيري

لا يحضر اسم الشاعر والناقد الإنجليزي-الأمريكي ت. س. إليوت (T.S. Eliot) في الأوساط الأدبية إلا ويتبادر إلى الذهن ذلك الانقلاب الجذري الذي أحدثه في بنية القصيدة الحديثة. لكن، ما يغفل عنه كثير من الدارسين، وتحديداً في حقل الفنون البصرية، هو أن إليوت لم يكن يؤسس لنظرية شعرية فحسب، بل كان يضع “دساتير جمالية” عابرة للأجناس الفنية، تصلح أن تكون مرجعاً رصيناً للفنان التشكيلي، والنحات، والمعماري، بنفس قدر صلاحيتها للأديب والشاعر.

إن قراءة نصوص إليوت النقدية، وتحديداً مقالته المؤسسة “التقليد والموهبة الفردية” (1919)، ومفهومه عن “المعادل الموضوعي”، تمنح الفنان التشكيلي والنقاد البصريين اليوم مفاتيح ذهبية لفك شفرة الحداثة وما بعدها، وتجيب عن السؤال الأزلي: كيف نرسم العاطفة دون أن نسقط في فخ المباشرة الساذجة؟

المعادل الموضوعي.. أو “اللوحة لا تبكي” لعل أخطر ما قدمه إليوت للفن هو نسفه للرومانسية المفرطة التي تجعل العمل الفني محض صدىً لأنين الفنان الشخصي. يقرر إليوت بصرامة: “الفن ليس تعبيراً عن الشخصية، بل هو هروب منها”. بالنسبة للفنان التشكيلي، هذه القاعدة هي الفاصل بين الفن الساذج والفن الرفيع. فوفقاً لنظرية “المعادل الموضوعي” (Objective Correlative)، لا ينبغي للرسام الذي يشعر بالحزن أن يرسم وجهاً دامعاً؛ فهذا تبسيط مخل. عليه بدلاً من ذلك أن يبحث عن “مجموعة من الأشياء، أو موقف، أو سلسلة من الأحداث” التي ستكون المعادِل لتلك العاطفة المحددة، بحيث أننا حين نرى تلك الأشياء (الألوان، الخطوط، التكوين)، يستيقظ الشعور فينا فوراً. هنا يتحول الفنان من “شاكٍ” يستجدي عاطفة الجمهور، إلى “مهندس” يبني هيكلاً بصرياً يولد الشعور.

التجريدية.. التطبيق الأمثل للنظرية إذا أردنا إسقاط هذه النظرية على المدارس الفنية، سنجد أن “التجريدية” هي الابن الشرعي لفكرة المعادل الموضوعي. ففنان مثل “فاسيلي كاندينسكي” أو “موندريان” أدركا مبكراً أن العاطفة لا تحتاج إلى “قصة” أو “شخوص” لتصل للمتلقي. في اللوحة التجريدية، تصبح “الدرجات اللونية المتضادة” هي المعادل الموضوعي للصراع، ويصبح “الخط المنحني بانسيابية” هو المعادل للسكينة، وتصبح “الكتلة اللونية الحمراء” هي المعادل للغضب أو الثورة. هنا، يتوارى الفنان تماماً، وتختفي المحاكاة الواقعية، لتبقى “العلاقات الشكلية” وحدها قادرة على استحضار الحالة الشعورية في ذهن المتلقي دون وساطة الكلمات أو الأشكال المألوفة، محققة بذلك شرط إليوت في أن يكون الفن “علماً” لضبط الشعور وليس فوضى للتعبير عنه.

الكيمياء الفنية ونظرية اللاشخصية يشبه إليوت عقل الفنان بـ”الخيط البلاتيني” في تجربة كيميائية؛ فهو العامل المساعد الذي تتفاعل بوجوده العناصر لتنتج مركباً جديداً (هو العمل الفني)، دون أن يظهر البلاتين في النتيجة النهائية. هذا الدرس البليغ يحتاجه كل فنان تشكيلي يطمح للخلود. إن اللوحة العظيمة هي التي تستقل عن مبدعها لحظة اكتمالها. إنها كيان قائم بذاته، له قوانينه الداخلية، وتوازنه الخاص في الكتلة والفراغ، بمعزل عن سيرة الرسام ومعاناته اليومية. يدعو إليوت الفنانين لامتلاك “الحس التاريخي”، وهو وعي يجعل الفنان يدرك أنه ليس مركز الكون، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من المبدعين، ومهمته ليست الصراخ بـ “أنا”، بل المساهمة في تشكيل “النحن” الإنسانية والجمالية.

التراث والحداثة.. الجدل الخلاق في وقتنا الراهن، حيث يعيش الفنان العربي خاصة صراعاً جدلياً بين الأصالة والمعاصرة، يحضر إليوت ليقدم حلاً عبقرياً. يرى إليوت أن “التراث” ليس كتلة صماء نرثها، بل هو شيء يجب أن نحصل عليه بجهد شاق. الفنان الجديد لا يلغي القديم، بل يضيف إليه ويغيره للأفضل. إن إضافة لوحة جديدة أصيلة إلى تاريخ الفن تُحدث تغييراً طفيفاً في ترتيب كل الأعمال الفنية التي سبقتها. هذا المفهوم يحرر التشكيليين من عقدة “تقديس الماضي” أو “نسفه”. فالفنان المعاصر يستطيع استلهام الموروث الشعبي أو الزخرفة الإسلامية، لا ليعيد إنتاجها كما هي (تقليد)، بل ليصهرها في بوتقة مشاعره المعاصرة (موهبة فردية)، منتجاً عملاً حداثياً بجذور ضاربة في العمق.

ختاماً: إن ت. س. إليوت، وإن لم يمسك فرشاة رسم قط، إلا أنه علمنا أن الفن كله هو عملية “تنظيم” دقيقة للشعور، وليس مجرد “فلتات” عشوائية. إنه يدعو الفنان التشكيلي لأن يكون مثقفاً، واعياً بتاريخ فنه، ومدركاً أن اللوحة والتمثال مساحة وكتلة للتفكير البصري المنضبط. إن استعادة نظريات إليوت اليوم في مراسمنا الفنية وقاعاتنا النقدية، ليست ترفاً فكرياً، بل هي ضرورة لضبط بوصلة النقد الفني، ولتذكير المبدعين بأن العاطفة وحدها لا تصنع فناً، بل “المعادل الموضوعي” لتلك العاطفة هو ما يخلد على القماش.

أخر المقالات

منكم وإليكم