كتبت: شيري شريف..عبور الروح والزمان.عبر الفن التشكيلي واللاوعي.

الفن التشكيلي واللاوعي: عبور الروح والزمان💗

الفن التشكيلي ليس مجرد خطوط وألوان، بل هو لغة الروح ونبض العقل واللاوعي معًا، انعكاس لحالة الإنسان والمجتمع في آن واحد. عبر العصور، شهد الفن التشكيلي تحولات متلاحقة، فكل مدرسة حملت رؤية خاصة متأثرة بظروف العصر ونزعات الفنانين الداخلية. من المدرسة الكلاسيكية التي سعت للكمال والهارمونية، مرورًا بالرومانسية التي غذتها العاطفة والخيال، والمدرسة التأثيرية التي رسمت الضوء واللون كصدى للواقع، وصولًا إلى التكعيبية التي كسرت الأشكال لتكشف جوهر الأشياء، والسيريالية التي عاشت بين الأحلام واللاوعي، والتجريدية التي بحثت عن الرمزية الصافية، والتعبيرية التي صرخت بالمشاعر الخام، نجد أن كل مدرسة هي رحلة فكرية وروحية في الوقت ذاته.
لكن لماذا يتحول الفن من عصر إلى عصر؟ هل هو اختيار واعٍ يقوم به الفنان، أم ميل داخلي لا شعوري يفرض نفسه على ذهنه وروحه؟ كل مدرسة جديدة تمردت على قواعد السابقة، كأن الفن نفسه يرفض القيود ويبحث عن حريته في التعبير، عن ذاته التي تتطور وتتصالح مع الزمن والمجتمع. التمرد ليس عبثًا، بل هو صدى للروح الباحثة عن التجديد، عن فهم أعمق للوجود والمعنى، عن كشف ما خفي في داخل الإنسان وما تعجز الكلمات عن التعبير عنه.
الفن ليس مجرد أدوات وتقنيات، بل هو جسور تمتد بين القلب والعقل، بين الذات والكون، بين الواقع والخيال. الفنان يخلق من رحم تجربة شخصية ومعاناة وجدانية، ومن خلال هذه التجربة تتشكل لوحاته ومنحوتاته. الفن التشكيلي إذن ليس قرارًا منطقيًا بحتًا، بل هو ميل داخلي يفرض نفسه على الوعي، هو لغة اللاوعي التي تتحرك في المخ لتترجم المشاعر إلى شكل ملموس يلمسه المتلقي ويستشعره دون تفسير لفظي.
المتلقون أيضًا يلعبون دورًا حيويًا في هذا المشهد، إذ يجد كل عصر في فنه جماله الخاص، وقد يكون هذا الجمال نتاج لحظة شعورية وجمعية، بعيدًا عن أي معيار موضوعي صارم. الجمال هنا ليس قاعدة ثابتة، بل هو تجربة ذاتية تتشكل مع لحظة المشاهدة، مع تفاعل المشاعر والأحاسيس الداخلية. المشاعر التي يولدها الفن في المبدع والمتلقي لا يمكن اختزالها أو تحليلها علميًا بالكامل حتى الآن، فهي جزء من البرامج الإبداعية اللاواعية التي يخبئها المخ، وبرغم غموضها، فإنها تولد تأثيرًا عميقًا يغيرنا من الداخل.الفن التشكيلي إذن حوار مستمر بين اللاوعي والوعي، بين الفرد والمجتمع، بين الذات والكون، بين الماضي والحاضر. كل لوحة، كل منحوتة، كل تشكيل هو شهادة على صراع داخلي، على فرح وحزن، على أسئلة بلا إجابات واضحة، على لحظة اكتشاف الذات في مواجهة العالم. الفنان لا يخلق وفق قواعد جامدة، بل وفق إيقاع داخلي خاص به، إيقاع يتفاعل مع تجاربه ومشاعره، ويترجمها إلى شكل محسوس.المشاهد الذي يتفاعل مع الفن يمر بنفس الرحلة، يستقبل الرسالة ويعيد تشكيلها داخليًا، فيصبح الفن تجربة مشتركة تتجاوز حدود المادة والفرد. كل لون وخط وانحناء في اللوحة يحمل معنى مزدوجًا، معنى ظاهري يراه العقل ومعنى خفي يلمسه القلب. كل منحوتة هي رسالة مشفرة، كل تشكيل هندسي هو صرخة صامتة في وجه العالم.المدرسة الكلاسيكية علمتنا أن الفن مسألة دقة وانضباط، أنها رحلة نحو التوازن المثالي، نحو الجسد البشري المثالي والطبيعة المهيكلة. الفنان الكلاسيكي يرى الجمال في الانسجام، وفي قواعد النسبة الذهبية، وفي التوازن بين الشكل والمضمون. لكن الكلاسيكية لم تغلق الباب أمام التطور، بل كانت الأساس الذي انطلقت منه مدارس أخرى للتمرد والتجديد.الرومانسية جاءت لتعلن أن المشاعر والأحاسيس هي جوهر الفن، وأن الجمال ليس في الشكل المثالي فحسب، بل في التعبير عن الذات والعاطفة. الرسام الرومانسي لا يخاف من الانزلاق نحو الهوس، نحو الطبيعة الجامحة، نحو لحظة الصرخة أو البكاء على الورق أو القماش. هذا الميل الشعوري هو ما يجعل الفن حيًا، نابضًا، متغيرًا مع الوقت.التأثيرية قدمت لنا تجربة الضوء واللون كما لو كانا كيانين مستقلين عن الشكل، ألوان متداخلة تلتقط اهتزازات العالم من حول الفنان، مثلما يلتقط العاشق أنفاس محبوبه. الفنان التأثيري يبحث عن اللحظة العابرة، عن الانطباع المباشر، عن تجربة حسية صرفة.التكعيبية كسرت الواقع لتكشف جوهره، لتزيل القناع عن الشكل، لتعيد تشكيله كما يراه العقل لا العين وحدها. كل زاوية وكل سطح هندسي في لوحة تكعيبية هي محاولة لفهم العالم من الداخل، لرؤية ما وراء المظهر. السيريالية أخذتنا إلى أحلام اللاوعي، حيث لا قوانين للزمان أو المكان، حيث يلتقي الخيال بالواقع بطريقة تفوق المنطق، حيث تظهر الصراعات الداخلية والرموز الغامضة في صور ملموسة.التجريدية أعادت تعريف الفن، بعيدًا عن الشكل والتمثيل، لتصبح اللغة الرمزية هي الأساس، لتتحدث الألوان والخطوط والنقوش عن حالات وجدانية وروحية. التعبيرية صرخت بالمشاعر الخام، بالحزن والفقد والفرح والانفجار الداخلي، لتصبح اللوحة انعكاسًا مباشرًا للروح التي تتفاعل مع العالم ولا تحاول التوفيق بينه وبين قواعد خارجية.اللاوعي الفني ليس فوضى عشوائية، بل نظام دقيق يتفاعل مع تجارب الفنان الحسية والعاطفية، ويترجمها إلى لون وخط وشكل، ليصبح ملموسًا ومرئيًا. كل منحوتة وكل لوحة هي رسالة إلى المتلقي، تجربة تتجاوز المادة، لتصل إلى الداخل، لتغذي الخيال والمشاعر، لتوقظ اللاوعي.الفن هو حوار حي، بين الروح والفكر، بين الماضي والحاضر، بين الذات والكون. كل لوحة، كل منحوتة، كل تشكيل هو شهادة على عبور الإنسان عبر الزمن، على محاولته فهم ذاته والعالم من حوله. التوثيق والتأريخ والتحليل أدوات لفهم الفن، لكنها لا تغني عن تجربة المشاهدة الحية، عن الإحساس الذي يتغلغل في النفس ويغيرها.الفن يشبه النفس البشرية، متقلب ومعقد، لا يمكن اختزاله، ولا يمكن وضع قواعد صارمة له. كل عصر يضيف طبقة جديدة على الفن، وكل فنان يضيف نبضة جديدة على اللحن العام. التعددية والفوضى المنظمة في كل حركة فنية تنبع من الحاجة الداخلية للتعبير عن الحقيقة الشخصية والعامة في آن واحد

بقلم شيرى شريف✍️

أخر المقالات

منكم وإليكم