كتبت التشكيلية:أميرة ناجي..بين الأسطورة والذاكرة: الجماليات المعاصرةفي تجربةالدكتور: محمود شبر.

بين الأسطورة والذاكرة: الجماليات المعاصرة في تجربة الدكتور محمود شبر

اميرة ناجي /فنانة تشكيلية

يقول الفنان العالمي فاسيلّي كاندينسكي:
(على اللوحة أن تولد من ضرورة داخلية لا من شكل خارجي فجوهر العمل الفني يكمن في روحه لا في هيئته)

تكشف هذه الحكمة طبيعة الفن الذي لا يعتمد على النقل الحرفي للعالم المرئي بل على تلك القوة الباطنية التي تعيد تشكيل الوجود بصريًا وروحيًا وعند تأمل تجربة الدكتور محمود شبر ندرك أن هذا المبدأ ليس مجرد رؤية جمالية بل هو الجذر العميق الذي تتفرع منه لغته الأسلوبية إذ تولد أعماله من حاجة داخلية إلى تفكيك الرموز وإعادة تركيب العالم ضمن منظار يستمد عمقه من الذاكرة والموروث والحس التفسيري المتغلغل في تاريخ بلاد الرافدين وهي حاجة بنيوية وليست لحظة إلهام عابرة لأنها تتكرر عبر أعماله كأنها نَفَس داخلي يرافق كل تكوين وينسج علاقاته داخل المشهد البصري بعناية لا تنفصل عن رؤية شبر العميقة لمعنى الصورة ومعنى الكائن وهو نفَس يربط بين الفرد والمجتمع وبين اللحظة الراهنة وجذور التاريخ.

يشكل الدكتور محمود شبر أحد المسارات البارزة في المشهد التشكيلي المعاصر لما تحمله أعماله من طاقة سردية ترتكز على ثنائية الذاكرة والرمز وتشتغل على خلق عالم بصري يتأرجح بين الواقعي والمتخيل أعماله ليست تمثيلاً مباشراً لشخوص أو أمكنة بل فضاءات تتقاطع فيها الحكايات الشعبية والأساطير الرافدينية والرموز الإنسانية ضمن صياغة تجمع بين البساطة الظاهرة والعمق الدلالي المتشعب وهو عمق يكشف أن الفنان لا يرسم الشكل لذاته بل يرسم أثره النفسي وما يتركه في مساحة الوعي ويحوّل التفاصيل الصغيرة إلى بوابات تأويل تتسع مع كل قراءة حيث يفتح النص البصري على مستويات متعددة من التجربة الإنسانية والعاطفية والاجتماعية كأن اللوحة نفسها مكتبة للوعي البصري المتجدد.

في بعض أعماله تتكرر صورة المرأة الحاضنة للدمية الحمراء ذات الملامح الغريبة وهي دمية تتجاوز مفهوم الطفولة لتتحول إلى ذاكرة يحملها الجسد الأنثوي كما لو كان يحمل أثراً من زمن لم يكتمل. هذا التوظيف الرمزي يعيد تشكيل الطفولة كعلامة على البراءة المفقودة وعلى الجسر الخفي الذي يصل الماضي بالحاضر من دون أن يقطع أثره النفسي وتبدو المرأة في حضورها هذا ككيان يقف على حافة الحكاية لا يستسلم لمعناها المباشر بل يضيف إليها بعدًا داخليًا يربط ما هو شخصي بما هو جمعي وكأن المرأة ليست شخصية داخل اللوحة بل هي ذاكرة اللوحة نفسها وهي بوابة لفهم المكان والزمان داخل المشهد البصري حيث يندمج المشهد النفسي مع السياق التاريخي لتصبح كل حركة صغيرة من حركات الشخصية متسقة مع سردية أكبر وأعمق.

وفي لوحات أخرى يظهر الرجل بملامح قوية ولون داكن يتقدم كظل و كحماية و صوت داخلي مواز لعالم المرأة. وجوده لا يقدم معنى واحدًا بل يفتح احتمالات متعددة تجعله رمزًا للسلطة والأب والذاكرة الجمعية بكل ما تختزنه من قصص وصراعات إن حضوره لا يطغى على المشهد بل يمنح التكوين توازنه الداخلي ليصبح جزءًا من شبكة العلاقات النفسية التي تشتغل عليها اللوحة ورغم صمته إلا أن صمته هذا يمارس وظيفة درامية تشكل ثنائية الحاجة والخوف وتعمق توتر المشهد وتضيف إليه طبقة شعورية تتجاوز البصر نحو الوعي حيث تتقاطع السلطة بالرحمة والهيبة بالخفوت لتظهر العلاقة بين الشخصيات كثنائية متناغمة ولكنها مشحونة بالتوتر الدقيق.

وفي إحدى اللوحات المهمة يقدم شبر المرأة إلى جانب رجل ذي حضور قوي يحمل ملامح تستدعي في المخيلة صورة عنترة بن شداد الفارس الذي تماهى تاريخيًا بين الحب والحرب. في المقابل تحضر المرأة بروح عبلة رمز الحكاية العاطفية العميقة في الوجدان العربي. غير أن الفنان لا يستعيد هذا الثنائي بوصفه سردًا جاهزًا بل يعيد تأويله بمنظور معاصر يحول الرموز إلى طاقة بصرية نابضة ويعيد طرح علاقة الحب بالبطولة والأنثى بالذكر والأسطورة بالواقع. إنه لا يستنسخ الحكاية بل يومئ إليها ويمنحها بعدًا وصفيا يتجاوز الزمن ويعيد تشكيل حضورها داخل خطاب بصري جديد يمنح المتلقي إحساسًا بأن الأسطورة ليست حدثًا من الماضي بل طاقة مستمرة تتجدد في الوعي الإنساني وبهذا يصبح المشهد أكثر عمقًا ويخلق حوارًا بين الماضي والحاضر وبين الرمزية الفردية والرمزية الجماعية.

أما الرجل في بقية الأعمال فليس هوية مغلقة بل علامة تتحرك بين معنى الحماية والظل والقلق والامتداد الوجداني لذاكرة المكان فهو مرآة مركبة للسلطة والخوف والتاريخ لكنه لا يحتل مركز الصورة بل يساهم في بنائها. فيخلق الفنان بذلك علاقة دقيقة تجمع بين التوتر والهدوء في آن واحد وبين القرب والابتعاد وبين ظاهر العلاقة وباطنها وهي علاقة تعكس تعقيد التجربة الإنسانية حين تتقاطع فيها الرغبة بالخوف والقوة بالضعف والحضور بالغياب. وهذه الديناميكية بين الرجل والمرأة والرموز المحيطة تخلق قراءة متعددة المستويات حيث يمكن النظر إليها بوصفها سردًا بصريًا يوازي النص الروائي المعقد في أبعاده النفسية والاجتماعية.

هذا الاشتغال يجعل شخصياته تبدو وكأنها خرجت من أرض بين الحكاية والواقع من تلك الأرض التي أنجبت جلجامش ورسمت أولى حروف العالم. هنا يتجلى ارتباط الفنان بالموروث العراقي لا عبر الاستعادة الحرفية للرموز بل عبر استثمار روح الحضارة الرافدينية وجوهرها العميق. فهو لا ينقل شكل الأسطورة بل يعيد بناء طاقتها ويحركها داخل خطاب بصري معاصر يجعل من الماضي مادة حية تتفاعل مع اللحظة وتعيد تشكيلها وهو ما يكشف قدرة الفنان على تحويل التاريخ إلى لغة تشكيلية لا تخضع للتقليد بل تخلق مساحتها الخاصة حيث يصبح كل عنصر بصري موصلًا لمستوى من المعنى يتجاوز الرؤية البصرية إلى مستوى التأمل في الوجود والهوية والذاكرة.

أما الخلفيات اللونية فتحضر بوصفها امتدادًا نفسيًا للمشهد فالبنفسجي الداكن والبقع اللونية المتداخلة بلا حدود صلبة تحيل إلى ذاكرة قلقة لكنها حاضرة وكأن اللوحة تبنى على أرض تتبدل مثل الحكايات. هذه الرؤية التي تمزج بين السردية الشعبية والمشهد التعبيري تخلق لغة تشكيلية هجينة محلية الجذور وعالمية التوجه وتكشف أن اللون لدى شبر ليس مجرد قرار جمالي بل قرار فكري يحدد طبيعة المناخ النفسي الذي تتحرك فيه الشخصيات والرموز ويصبح جزءًا من السردية الشاملة التي تضم الحكاية والتاريخ والرمز النفسي والاجتماعي.

أسلوب شبر يمكن وصفه بواقعية تعبيرية ذات نزعة سردية رمزية، لا ينحاز إلى الأكاديمية الخالصة ولا يغرق في التجريد بل يقف في منطقة وسطى تتيح للشخصيات حضورها وللرموز قوتها البصرية. لذلك تبدو لوحاته نصوصًا بصرية قابلة للقراءة أكثر من كونها مشاهد جامدة وهي نصوص تتسع كلما عاد إليها المتلقي لأن خطوطها لا تنقل الشكل وإنما تنقل أثره وتخرج المعنى من حدود التصوير المباشر إلى فضاء التأويل المفتوح وهو ما يجعلها قابلة للدرس الأكاديمي والبحث الفني والتحليل النفسي والاجتماعي في آن.

إن حضور الدمى والسهام والزهور والمصابيح والحشرات وغيرها من العناصر التي تظهر متنافرة للوهلة الأولى يتحول في منظار الفنان إلى شبكة رمزية مبنية بدقة، تعيد تشكيل آلية الذاكرة حين تجمع بين مشاهد متباعدة لكنها تنتمي لقصة واحدة في العمق وهذا ما يجعل اللوحة لدى شبر أقرب إلى مسرح داخلي تتحرك فيه الأشياء بوصفها رموزًا وأصواتًا نفسية قبل أن تكون عناصر مرئية ويؤكد على أن التجربة الفنية هي تجربة متعددة الطبقات تتجاوز الشكل إلى المعنى والوظيفة الرمزية.

وتقدم تجربة الفنان نموذجًا مهمًا لقراءة علاقة الفن المعاصر بالماضي وكيفية إدماج الهوية الثقافية داخل خطاب بصري حديث بعيد عن الفلكلورية أو الاستنساخ الأيقوني فالحضارة هنا ليست عنصرًا جامدًا بل طاقة حية تُعاد صياغتها مع كل عمل وهي رؤية تتناغم مع جوهر الفن المعاصر الذي يعيد بناء الهويات لا بوصفها ماضيًا بل بوصفها حوارًا مستمرًا بين الإنسان وذاكرته، وتصبح اللوحة مرآة للفكر والجمال والذاكرة المشتركة.

وفي ضوء هذا كله يمكن للباحثين النظر إلى تجربة شبر باعتبارها حقلاً بصريًا غنيًا يستحق الدراسة سواء في سياق تحليل الرمز أو في تمثيل المرأة أو في العلاقة المركبة بين الرجل والمرأة، أو في قراءة الحضور النفسي للطفولة داخل فضاء مشحون بأدوات الصراع والمعنى. كما يمكن للدارسين تتبع مسارات اللون وتقنية بناء المساحات والآليات التي تتحول فيها الحكاية الشعبية إلى رمز بصري معاصر يتجاوز حدود البيئة المحلية نحو أفق إنساني أوسع، ليصبح هذا العمل مادة خصبة للأبحاث الأكاديمية في الفن والرمزية والهوية.

وفي النهاية، لا يمكن قراءة أعمال محمود شبر قراءة واحدة، لأنها تخفي طبقات من المعنى لا تكشف نفسها إلا بالتدرج. فهي تحاور المتلقي وتدعوه إلى دخول عالمها بوصفه شاهدًا لا متفرجًا وتفتح أمامه مساحات تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية مع الذاكرة الجمعية. ولهذا تبقى تجربته أحد الوجوه المعاصرة لفن عراقي يتجدد ولا ينطفئ وامتدادًا حيًا للحضارات التي مرت من هنا وهي تجربة تجمع بين الأصالة والمعاصرة بين الحداثة والفلسفة واللون والرمز لتصبح نموذجًا عالميًا يحتذى به في الحوار بين الفن والتاريخ والهوية

أخر المقالات

منكم وإليكم