قراءة في منحوتات الفنان: رضا فرحان.تعطيك الهيبة والهمس..- بقلم التشكيلية: أميرة ناجي.

الهيبة والهمس قراءة في منحوتات
الفنان رضا فرحان

أميرة ناجي / فنانة تشكيلية

يقول الفنان العالمي ألبرتو جياكوميتي لا أصنع تمثالا بل أحاول أن أقبض على حضور إنسان يمشي في داخلي وهذه المقولة تمثل المفتاح الأكثر صدقا لقراءة تجربة الفنان رضا فرحان لأنها تكشف جوهر النحت حين يتحول من كتلة مادية إلى أثر روحي ومن شكل مرئي إلى حضور داخلي الفنان رضا فرحان لا ينحت الأجساد بما هي أجسام بل بما هي حالات وتوترات وذكريات ونبضات لا ترى وفي عالم يتكاثر فيه الضجيج البصري ويطارد الفنانون الإبهار اللحظي يختار رضا فرحان أن يهمس وأن يجعل من الهدوء قوة ومن الصمت امتدادا للمعنى فهو لا يقدم منحوتاته أشكالا تعرض بل تجارب تعاش لحظات إنسانية يقيم فيها العمل علاقته مع المتلقي بعفوية لا تحتاج إلى شرح ولا استعراض إذ يضعه أمام كتلة صامتة تنطق بما هو أعمق من الكلام أعماله تبحث عن جوهر الإنسان في أكثر لحظاته صدقا حين يكون عاريا من كل التجميل ومن كل البلاغات الخارجية التي لا تشبهه

منحوتات الفنان رضا فرحان تتحرك داخل المسافة المرهفة بين الكتلة والفراغ بين الثقل والخفة بين الوقوف المنتصب والانحناء الخفيف الذي يشبه انكسار النفس البشرية فمن خلالها لا نرى الإنسان كشكل بل كبنية داخلية تشتد وتلين تتماسك وتتفتت وتنكمش وتتسع حسب ما تقتضيه الحالات الوجودية التي يحاول الفنان الإمساك بها في زمن لا يعترف بالثبات كل عمل لديه هو محاولة للإمساك بما يفلت دائما بالشعور بالقلق بالزمن الذي يمر بنا دون أن نشعر وبالذاكرة التي تتراكم دون أن نقدر على احتوائها ولهذا فإن حضور الإنسان في أعماله لا يعرف بالجسد بل بالتوتر الذي يسري فيه كأن المنحوتة نفسها تتنفس وتفكر وتقاوم وتنهار وتنهض وتعيد صياغة هشاشتها بطريقة لا تشبه سوى حقيقتها الأولى

في إحدى منحوتاته يقف رجل بجانب مصباح شارع لا يتكلم ولا يتحرك لكنه يحكي عن انتظار المدن وعن وحدة الأرصفة وعن الأصوات التي لا تستمع إلى بعضها المصباح في هذا المشهد لا تفصيلا بل شاهدا على صمت طويل وصديقا لعزلة لا تجد من يفسرها إذ يتحول الضوء نفسه إلى محاولة للتماسك أمام عالم يزداد ابتعادا وتتحول الوقفة الهادئة إلى مرآة تتسع لكل أسئلة الإنسان المنحوتة لا تطرح سؤالا واحدا بل عشرات الأسئلة من نكون حين نقف تحت الضوء؟ وأين تذهب أرواحنا حين تتركنا المدينة خارج الوقت؟ ولماذا يصبح الضوء أحيانا أكثر وحدة من الإنسان نفسه؟ فلا تجيب لأنها ولدت للتأمل لا للتفسير وللدخول في القلب لا في نصوص الشرح الأكاديمية

وفي عمل آخر يتداخل الرأس البشري مع آلية ساعة وعقارب ومعدن يخترق الجلد ويتقدم ببطء موجع هنا يصبح الرأس ساحة صراع لا بين عضوين بل بين زمنين زمن الإنسان الذي يحاول الإمساك بذاكرته وزمن العالم الذي يستهلكه دون رحمة الساعة ليست رمز بل تحولت إلى حقيقة وجودية تؤكد أن الفكر نفسه صار مرهقا وأن الذهن أصبح ساحة يتجاذبها الزمن من كل الجهات هذه المنحوتة لا تمثل تطورا ميكانيكيا بل قلقا إنسانيا يجعل المتلقي يعيد طرح سؤال متى بدأ الزمن يعمل فينا أكثر مما نعمل فيه وهل ما يزال العقل مساحة للحلم أم أنه تحول إلى آلة تفكر ولا ترغب ولا تتسع للخيال

السطوح الخشنة في أعمال الفنان ليست خيارا عشوائيا انها موقفا جماليا يعيد الاعتبار للحقيقة فالخشونة هنا شهادة على الألم وعلى الزمن وعلى الحياة وهي لا تصقل لأن الصقل يخفي بينما الفن عنده يكشف كل خدش هو جزء من السيرة الذاتية للمنحوتة وكل نتوء هو جرح قديم وكل أثر أداة هو اعتراف لا يريد الفنان شطبه
أعماله تعجب بل تواجه كي تفهم وتمنح جسد الفن التجاعيد التي تحكي التاريخ الذي مر عليه دون تزويق

وفي منحوتة أخرى تتدفق من رأس واحد وجوه كثيرة ليست تشظيا بل كثافة إنسانية وذاكرية تصنع من الرأس خزانة للحيوات الصغيرة التي يسكنها الإنسان داخله قد تكون وجوه طفولته أو ضحاياه أو احتمالاته أو مخاوفه أو ماضيه الذي يحاول الاختباء ولا ينجح هذا العمل يجعل المتلقي يقف أمام سؤال لا يمكن حسمه هل نحن فرد واحد أم مجموع لا يحصى من الذوات التي تتصارع وتتفق وتتجاور داخل حيز ضيق اسمه الوعي ربما نحن كائن واحد وربما نحن مدينة كاملة من الوجوه التي لا تنام وكل وجه يحمل روايته الخاصة التي لا تتشابه إلا في الألم

وفي عمل آخر نرى شخصية طويلة تحمل عصا محاطة بأجساد أصغر تقف بجانبها بثقة أكبر من خوف لا نرى سلطة بل رعاية ولا نرى صراعا بل احتواء العصا ليست علامة قوة بل اتكاء ورمز لحكمة تحمل ثقل السنين الشخصية الكبرى لا تعلو بل تتقدم كي تمنح الآخرين مساحة يستندون إليها هذه القراءة تعيد تعريف القيادة بوصفها احتضان روح الآخر لا فرضها وبوصفها شراكة لا هيمنة وتجعل من الجسد الكبير صورة للمسؤولية لا للسيطرة

تنعكس الذاكرة الحضارية للجزيرة العربية بوضوح في أعمال رضا فرحان فهي مشبعة بروح المكان وبخامات الأرض وبصلابة الحجر وبرائحة الطين وبجماليات العمارة التقليدية حيث كانت الجدران تحتفظ بأثر الزمن دون محاولة إخفائه وتتجلى هيئات الإنسان الشعبي في وقفته الشامخة وصمته الممتلئ بالمعنى وحكمته المتوارثة وعلاقته بالبيئة في موازنة دقيقة بين الصبر والقوة والسكون والحركة هذا الموروث لا يظهر بشكل مباشر بل يعبر من خلال روح الأشكال عبر صمت الليل القروي الذي عرف الحكايات وهيبة الشيوخ وهشاشة الأطفال وتوازن الجماعة وفي كل ذلك تتحول الثقافة الشعبية إلى تجريد معاصر يخرجها من المحلية إلى العالمية دون أن تفقد جذورها

ورغم انتماء رضا فرحان إلى تيار النحت المفاهيمي إلا أنه لم يتخذ موقع التابع بل أسس لنفسه مدرسة فنية خاصة تقوم على المزج بين التعبير الوجودي والذاكرة الشعبية وعلى تحويل الكتلة إلى موقف وعلى اعتبار السطوح سجلات زمنية وعلى استخدام الرمز الإنساني بوصفه حالة تتجاوز حدود الشكل إنه فنان يشتغل على المعنى قبل الهيئة وعلى الروح قبل الوزن وعلى الهمس قبل الصراخ ولهذا فإن منحوتاته لا تحتاج إلى ضوء قوي كي تظهر لأنها تشع من داخلها وتضيء المتلقي قبل أن يضيئها

إن تجربة فرحان لا تقوم على الضخامة بل على التسلل وكل منحوتة لديه تمتلك قدرة نادرة على اختراق الداخل بصمتها وعلى فتح أبواب في الوعي لا تغلق بسهولة وعلى طرح أسئلة أكثر مما تمنح إجابات ثم تترك المتلقي أمام مرآة يواجه فيها ذاته لا العمل فقط فهي أعمال تتقدم بخطى هادئة لكنها راسخة وتتحول مع الوقت إلى جزء من الذاكرة الشخصية للمشاهد وكأنها كانت فيه قبل أن يراها

وهكذا تتشكل أعماله كتجارب وجودية وليست مجرد مشاهد بصرية فهي تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والكتلة بين الذاكرة والمادة بين الصوت والصمت بين ما نراه وما نشعر به وبين الحضور والغياب إنها أعمال تعيد الفن إلى معناه الأول أن يكون اعترافا لا عرضا وأن يكون أثرا لا شكلا وأن يظل في الذاكرة أطول بكثير من بقائه في الواجهة وأن يكون مرآة تكشف الإنسان لنفسه أكثر مما تكشف المنحوتة نفسها.

***********
المصادر:: .bbc /arabic
– موقع (اليوم السابع)
– موقع موزاييك
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)
–  جريدة الدستور
– موقع العربي الجديد
– موقع : – الجزيرة .نت
– سكاي نيوز عربية – أبوظبي
– موقع سبق- اليوم السابع
– الإمارات اليوم
– العربية .نت – الرياض
-صحيفة الثورة السورية
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
*****

أخر المقالات

منكم وإليكم