عناصر الكوميديا في مسرح يوسف إدريس
بقلم د.علي خليفة
قلما نرى مسرحية من مسرحيات يوسف إدريس تنسحب الكوميديا منها، بل إن أغلب مسرحياته هي مسرحيات كوميدية، وتنتشر الكوميديا فيها من بدايتها لنهايتها، وتتضافر عناصر الكوميديا فيها؛ مما يجعل المتلقي لها يشعر بسعادة وبهجة حين تلقيه لها.ولا شك أن يوسف إدريس كان يوظف هذه الكوميديا في مسرحه ليس فقط لإضحاك المتلقي لها وإسعاده، ولكن أيضًا من أجل أن يثير من خلالها بعض الأفكار والرؤى التي تتعلق بموقفه من بعض القضايا الخاصة بالسياسة والمجتمع.وسنعرض هنا عناصر الكوميديا في مسرح يوسف إدريس، ونعرض كل عنصر منها على حدة، وإن كانت تأتي – في الغالب – متضافرة في مسرحياته.أ
ولاً: الأنماط الكوميدية قلما نرى مسرحية من مسرحيات يوسف إدريس لا يعرض لنا فيها نمطًا من الأنماط الكوميدية – أو أكثر من نمط كوميدي فيها – ويبث الفكاهة في المسرحية من خلاله، ونرى أن يوسف إدريس قد التقط كثيرًا من الأنماط الكوميدية من المجتمع المصري، وعرضها في مسرحياته، وهي:-1نمط المهرج وقد عرض يوسف إدريس نمط المهرج في مسرحية “البهلوان”، وجسد هذه الشخصية حسن المهيلمي رئيس تحرير إحدى الجرائد، وكان يرى أنه غير قادر على التوازن في حياته بسبب أنه يكاد يتنفس نفاقًا وكذبًا طوال يومه؛ حتى يستطيع أن يبقى في عمله، ويحافظ على كرسي رئاسة تحرير الجريدة التي يعمل بها، ورأى أن داخله الذي فيه قدر من النقاء لا يكاد يحتمل ذلك، فقرر حسن المهيلمي أن يعمل مهرجًا في المساء في السيرك المصري العالمي، وكان يرتدي قناعًا على وجهه، ومن خلال عمله كمهرج كان يخرج كل الصدق الذي يرغب في قوله، وكان يقول الحقيقة التي لا يستطيع أن يقولها – عن أي شيء – وهو بوجهه العادي.ويقدم حسن المهيلمي وهو في السيرك فقرات مضحكة جدًّا، ولكنها في الوقت نفسه فيها تعرية لأشخاص منافقين وكاذبين مثله، وكان يفضحهم ويعريهم.-2نمط الفرفور الساخرونرى نمط الفرفور الساخر الذي يشبه الأراجوز في حدة لسانه ونقده في مسرحية “الفرافير”، وهذا الفرفور هو عبارة عن أراجوز بُثَّتْ فيه الحياة، ونراه في هذه المسرحية ينقد بجرأة وسخرية كثيرًا من الأوضاع الغريبة في المجتمع المصري، ويتشكل أحيانًا في شخصيات أخرى؛ لينقدها من خلال تجسيده لها، كما أنه يشتبك كثيرًا مع شخصية السيد في هذه المسرحية، ويعبر له بأسلوبه الساخر عن رفضه لمنطق وجود سادة وفرافير في أي مجتمع من المجتمعات، وفي أي وسط من الأوساط.-3نمط العجوز المتصابيةونرى نمط العجوز المتصابية في مسرحية “جمهورية فرحات”، ونراها في هذه المسرحية تعجب بشاب صغير، وتحاول أن تغلبه على أمره بأن ينشغل بها ويتجاوب معها، ويرفض هذا الشاب الصغير الخجول أن يستجيب لها، فتذهب للقسم، وتَدَّعي أمام الصول فرحات أن ذلك الشاب يعاكسها، ويستدعيه الصول فرحات، ويأخذ عليه تعهدًا بعدم التعرض لهذه المرأة، وتهدد تلك العجوز المتصابية ذلك الشاب بأنه لو أهملها فسوف تستدعيه مرة أخرى للقسم لتشكوه، ويضطر هذا الشاب الخجول أن يوافقها على هواها.-4نمط الزوجة المتسلطة على زوجهاونرى نمط الزوجة المتسلطة على زوجها في مسرحية “ملك القطن”، ففي هذه المسرحية نرى نظيرة تتسلط على السنباطي، وهو أحد صغار الملاك قبيل ثورة 23 يوليو، وتكون المفارقة في أن السنباطي يتسلط ويستبد على الفلاحين الذين يعملون في أرضه، في حين نراه يخضع بشكل يدعو للضحك أمام نظيره زوجته، فيستجيب لكل طلباتها، ويعمل لها ألف حساب.-5نمط البخيلوعرض لنا يوسف إدريس نمط الشخص البخيل في مسرحية “ملك القطن” في شخصية الحاج شوادفي، وهو أيضًا من صغار ملاك الأراضي الزراعية، ويسوم الفلاحين الذين يعملون في أرض له أو يستأجرونها منه الهوان، ويقتر عليهم تقتيرًا شديدًا، وتكون المفارقة في أن الفلاح البسيط قمحاوي يستجير به؛ ليكون واسطة له عند السنباطي مالك الأرض التي يستأجرها منه؛ حتى يزيد في المبلغ الذي قرر أن يعطيه له بعد جني محصول القطن، وهنا يقول السنباطي للحاج شوادفي: إنه أشد تقتيرًا على العاملين في أرضه من تقتيره هو على قمحاوي وغيره ممن يستأجرون أراضي منه.
ثانيًا: المفارقةوالمفارقة في أبسط تعريف لها تعني جمع المتناقضات، وأن يكون هناك تناقض في موقف من المواقف.ومن صور المفارقة المادية في مسرح يوسف إدريس ما نراه في مسرحية “الفرافير”من زواج الفرفور الشديد النحافة من امرأة شديدة البدانة؛ مما يثير الضحك من ذلك التناقض الشديد بينهما.وأيضًا من صور المفارقة في مسرح يوسف إدريس ما نراه في موقف من مسرحية “جمهورية فرحات”، وفيه نرى الصول فرحات يستمع للأشخاص الذين يقدمون له بلاغات في القسم، ويقول لشخص ظنه غير متهم: إن كل هذه الشكاوى التي تقدم له هي شكاوى كيدية ولا حقيقة لها، وإنه هو الضحية، وليس هؤلاء الذين يتقدمون بهذه الشكاوى؛ لأنه يضطر للاستماع لأصحاب هذه الشكاوى ومتابعتها والنظر فيما يجب أن يعمل إزاءها. وأيضًا نرى مفارقة غريبة في مسرحية “المخططين”، فالأخ الذي استطاع أن يخضع العالم داخل تمثيل لمسرحية في هذه المسرحية اقتنع بأن إلزام سكان العالم باللونين الأبيض والأسود فقط – الذي كان قد أمر الناس بالتقيد بهما فقط – لم يجلب السعادة الحقيقية للناس، فرغب في أن يغير فكره، وطلب إلى الناس التنوع في الألوان ، فانقلب عليه الناس، ورفضوا تنفيذ كلامه. ويقصد يوسف إدريس بذلك أن صاحب الفكر السياسي قد يرى بعد تطبيق فكر له أنه أخطأ،ويجد صعوبة كبيرة في معالجة هذا الخطأ وإقناع الناس بالعدول عنه.
ثالثًا: الموقف وتعد الكوميديا التي تقوم على الموقف من أرقى أنواع الكوميديا، ومن أكثرها مدعاة للضحك.ومن أشد المواقف طرافة تلك التي تقوم على سوء الفهم، كذلك الموقف الذي نراه في مسرحية “جمهورية فرحات”، وفيه يتصور الصول فرحات أن شابًّا أمامه هو شخص جاء ليتقدم ببلاغ في حين كان هذا الشاب متهمًا، ولم يجد له الضابط النوباطجي الذي كان موجودًا قبل الصول فرحات مكانًا في الحجز له، فتركه في ذلك المكان في المكتب الذي تقدم فيه الشكاوى، ونرى الصول فرحات يسترسل في حديثه لذلك الشاب في أحلامه عن مدينة فاضلة ينعم الناس فيها بالاحترام، ويأخذ كل شخص فيها حقه، ويعمل كل شخص جهده فيها، ويكتشف بعد ذلك الصول فرحات أن ذلك الشخص متهم، وأنه قد أسرف في حديثه عن تطلعاته لمجتمع مثالي معه.ونرى في بعض مسرحيات يوسف إدريس مواقف عبثية لا منطق فيها، ولكنها تكون مقبولة في موضعها من تلك المسرحيات، ومن ذلك ما نراه في مسرحية “الفرافير” – التي هي أقرب لمسرح العبث في بنائها – من مجيء شخص للفرفور والسيد – بعد أن عملا تربيين – ليقتلاه، ويدفناه، فيقوم السيد بقتله، ويشارك معه الفرفور في دفنه.وأيضًا نرى في مسرحية “الفرافير” موقفًا آخر عبثيًّا، وذلك حين يقوم الفرفور والسيد بحمل شخص ميت ليدفناه، فينتفض ذلك الشخص من النقالة، ويعبر عن رفضه في أن يدفنه هذان الشخصان، وفي مسرحية “الفرافير” مواقف أخرى فيها أجواء العبث، وتدعو للضحك.وأيضًا نرى مواقف عبثية تثير الضحك في مسرحية “الجنس الثالث” التي تقوم على الفنتازيا الممتزجة بأجواء العبث، ومن المواقف العبثية في هذه المسرحية ما نراه في أحد المواقف منها في هيام شجرة التمرحنة بالدكتور آدم، ونراها تتمرد على الأوامر الموجهة لها بألا تقترب من الدكتور آدم، فنراها تحتضنه، وتعبر له عن شدة حبها له، ويستغرب الدكتور آدم من هذا التصرف الغريب من تلك الشجرة في ذلك العالم الغريب الذي وصل إليه، وفيه آخر امرأة من سلالة هابيل، وكان عليه أن يتزوج منها – لأنه أرقى شخص في العالم في ذلك الوقت – حتى ينجبا، ويكون نسلهما هو الجنس الثالث الذي سيرقى بالبشر على الأرض.
رابعًا: التعليقات الطريفة وكثير من شخصيات يوسف إدريس نراها لديها قدرة كبيرة على التعليقات الطريفة، خاصة الصول فرحات في مسرحية “جمهورية فرحات”، وهو فيها ينتقد بأسلوبه الساخر وتعليقاته الطريفة كثيرًا من الأشخاص الذين يأتونه في القسم لتقديم بلاغات، وهو يدرك أنها بلاغات كيدية، وأنه الشخص الوحيد المتضرر منها؛ لكتابته لها، ولتحقيقه فيها.وأيضًا نرى الفرفور في مسرحية “الفرافير” لديه قدرة كبيرة على التعليق الساخر المضحك، وهو خلال تعليقاته ينتقد كثيرًا من الأوضاع في المجتمع، وفي حياة الناس بشكل عام، وغالبًا ما يكون نقده ساخرًا مثيرًا للضحك.
خامسًا: الحط من المقامونرى من صور الحط من المقام سخرية الصول فرحات من بعض الأشخاص الذين يتقدمون بشكايات كيدية له في مسرحية “جمهورية فرحات”.وأيضًا من المواقف التي فيها حط من المقام ذلك الموقف الذي نراه في بداية مسرحية “الفرافير”، وفيه نرى المؤلف يظهر وهو مرتدٍ جاكتًا وشرطًا؛ مما يدعو للضحك من ذلك التناقض الذي فيه حط من مقامه.سادسًا: الإشارات الجنسيةوالإشارات الجنسية وسيلة من وسائل الإضحاك، اعتمد عليها كبار كتاب الكوميديا، كشكسبير في مسرحية “العبرة بالخواتيم”، وموليير في مسرحية “الطبيب رغم أنفه”.ونرى يوسف إدريس يوظف هذه الوسيلة في الإضحاك في مسرحية “البهلوان”، خاصة في الموقف الذي يطلب فيه حسن المهيلمي من سكرتيرته كوب اللبن الذي اعتاد على تناوله منها كل صباح.سابعًا: الحوار الطريف نعلم أن الحوار هو المادة الخام الوحيدة التي يبدع من خلالها كاتب المسرح مسرحياته، وعن طريقه يُصَعِّدُ الأحداث، ويُكَوِّنُ الشخصيات وينميها، كما أنه عن طريق الحوار يحاول إضحاك الجمهور من خلال ما يتضمنه من طرافة وظرف، وما يحمله من مفارقة ورسم مواقف طريفة.وبصفة عامة فإن حوار يوسف إدريس في مسرحه يتصف بالطرافة وخفة الظل العالية، ونعطي مثالًا على ذلك بموقف موجود في مسرحية “ملك القطن”، وفيه يتغزل محمد بن قمحاوي في سعاد بنت السنباطي، وهي تضحك من حديثه الغزلي الممتزج بالظرف، ويظن أنها بذلك يمكن أن تقبله زوجًا لها، ولكنه كان واهمًا؛ لتغافله عن الفوارق الطبقية الكبيرة بين أسرته البسيطة وأسرتها التي تعد من صغار الملاك، والتي ترى نفسها في مكانة أعلى بكثير من طبقة الفلاحين البسطاء التي ينتمي لها محمد ووالده الفلاح البسيط قمحاوي.وهكذا رأينا تنوع عناصر الكوميديا في مسرح يوسف إدريس؛ مما يجعله مسرحًا كوميديًّا من طراز رفيع؛ لأن الكوميديا فيه كانت تأتي لأغراض أخرى مع الضحك، كالنقد السياسي والاجتماعي، وهو ضحك يحمل دعوة للإصلاح والتغيير للأفضل، كما رأينا هذا من تحليلنا لعناصر الكوميديا في مسرحه.


