ها أنا أفتح معكم أبواب الصباح على متحف اللاذقية… لا كحجرٍ صامت بل كقلبٍ نابض يخفق منذ آلاف السنين.
عندما تشرق أشعة الشمس الأولى على مبنى المتحف تشعر وكأن الضوء يعرف طريقه جيداً إلى الجدران الحجرية. يلامسها بحنان وكأنه يوقظ ذاكرةً كانت نائمة تحت طبقات الزمن. في لحظةٍ واحدة يتحوّل المتحف إلى شيخٍ حكيم يفتح عينيه ويبتسم لمن يقف أمامه.
ذلك البناء العريق لا يحفظ الآثار فقط.. بل يخزّن أنفاسَ العصور ووشوشات المدن التي عبرت من هنا، من أوغاريت حتى اللاذقية..
كل حجرٍ في جداره كُتب بحكاية وكل نافذةٍ فيه تطل على زمنين:
زمنٌ مضى
وزمنٌ يتشكّل أمامك الآن.
أما حديقته الواسعة.. فهي الحكاية التي لا يستطيع أحد أن يتجاهلها.
حديقةٌ ليست مجرد خضرة بل مسرحٌ مفتوح للذاكرة:
أشجارٌ تنحني فوق التماثيل الحجرية كأنها تحرسها وأرضٌ مفروشة بظلٍ بارد يُلطّف هواء الصباح ومساراتٌ صغيرة تدعوك للمشي ببطء ببطء يشبه القراءة الأولى لكتابٍ عزيز.
هناك، في قلب تلك الحديقة تختلط روائح الصنوبر بعبق التماثيل القديمة..
تماثيل تقف بصمت ولكن حضورها أقوى من الكلام.
كل قطعةٍ أثرية وكأنها تقول لك:
“أنا هنا منذ زمنٍ أطول من عمرك لكنني ما زلت أحيا في نظرتك.”
ومتحف اللاذقية بهذا الامتزاج الساحر بين الطبيعة والآثار يشبه متحفاً في الهواء الطلق…
متحفاً يتنفّس.
يمشي مع الناس.
يحكي لهم عن مرافئ انتهت وعن سفنٍ ما زالت تهيم على وجه البحر وعن مدينةٍ تُشبه موجة هادئة حيناً وجارفة حيناً آخر.
إنه ليس مكاناً تزوره… بل مكانٌ يلمس قلبك.
فكل خطوة فيه تعيدك إلى حضارةٍ مرّت من هنا وتركت ظلّها على الحجر والشجر والريح.
وهكذا يصبح متحف اللاذقية بهذا الصباح المشرق ليس مبنى فحسب بل عشقاً أزلياً يذكّر أبناءه أن التاريخ حين يسكن مدينة يبقى فيها ما بقي البحر…
عاشق اوغاريت.. غسان القيم..


