الحداثة الشعرية ورهانات التحويل الشكلي
عبداللطيف الوراري
طوال القرن العشرين، كان ثمّةَ وعيٌ جديدٌ ومتبلور عند الشعراء المحدثين بضرورة التنويع في شكل القصيدة وهيئاتها الخارجية والبصرية، من خلال ابتكار أنماط تعبير جديدة قادرة على احتواء تقنيات وآليات إيقاعية وتصويرية مختلفة تتخفّف من النزوع الغنائي بإدخال السرد والتجسيد والحكاية الأليغورية، على نحو يوسع مدركات الذات الشاعرة ويُدخلها في مناخات درامية وملحمية تحت وطأة الشعور بالاغتراب والصراع والتمزق الداخلي، ويُحدث نسيجا جديدا من العلاقات اللغوية يفترضه التداخل – نصّيا- بين الشعري والسردي، بشكلٍ يُوازيه الحدس الفني الذي يحرص من خلاله الشاعر على وحدة العمل الإبداعي والتئام عناصره الفنية.
تكسير أحادية الشكل
يمكن القول إنّ النزوع إلى تسريد القصيدة أيّا كان شكلها وتوزيع مقاطعها الداخلية، قد ساهم في تحقيق الوحدة بما هي التزام أجزاء البناء النص من جهة، وترابط سلسلة الحدث الذي يجسد نموّ المعنى النفسي والفكري وتطوُّره داخليّا حتى يبلغ ذروة ما، بل يغنم من «الوثبات التخيُّلية» (مجازات، رموز، إيحاءات والتقاطات أليغورية وسريالية…) التي تصبغه بقدر ما يعقلها ويُوجّهها داخل استمرارية السياق من جهة أخرى. لهذا، لم يكن مثل هذا الرهان يحصل خارج مطالب التخلص من أسر الشكل الصارم الذي ميّز الحركة الرومانسية منذ طلائعها الأولى، وكان يستلهم نمط الموشّحات الأندلسية ونظائرها. وفي هذا السياق، يدرس عبد القادر القط في «الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر»، كيف أن الرومانسيين العرب توجّهوا إلى الكتابة وفق «نظام المقطوعة المتغيرة القوافي»، متأثرين بنماذج سابقة شبيهة بهذا النظام في الشعر العربي القديم (الموشحات، المخمسات والأسماط)، و»بروافد أخرى مما قرأوا في الشعر الغربي الحديث». وهكذا، بحيث برزت محاولات عديدة، منذ بدايات القرن العشرين، تُبذل من أجل تفتيت أُحاديّة النظام الوزني ومُتعلّقاته النظمية والهندسية؛ مثل تنويع القافية والمزج بين البحور وتوزيع بناء القصيدة إلى مقاطع تساير نسيج الوحدة، الموضوعية والعضوية في آن، وابتداع أشكال شعرية كانت تتحرك ضمن هذا الرِّهان التحويلي، إلى درجة التحرُّر من شرط الوزن أو القافية، أو منهما معا (الشعر الحر، الشعر المرسل، الشعر المنثور..)، ومن إسار الصيغ الشعرية المستهلكة، التي أثرت على نظام القصيدة القديم، بل إن هذه الأجناس الشعرية التي كانت من ثمار الرغبة في التحديث الشكلي، باتت خطورتها تتمثل في أنها اخترقت الحدود بين الشعر والنثر، رغم ما عانت على مستوى النظرية من إشكالية المصطلح بسبب سوء الترجمة والتباس الوضع والسياق، ما خلق فوضى في تلقّي الشعر الجديد والارتياب منه.
كان لهذه الجهود الفنّية على صعيد الشكل الشعري، صدى قويٌّ عند أفراد حركة الشعر الحديث ـ وكان معظمهم رومانسيّين في بدايات شعرهم – الذين آمنوا بقيمة هذا التحول الجمالي ودفعوا بإرهاصاته المتحقّقة إلى أقصاها؛ حين اقترحوا شكلا جديدا يتسم بمرونة كبيرة، ويسعف على التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم على نحو تحليلي ينأى به عن التدفق المباشر للذات، والتعبير عن واقعهم الاجتماعي المصطخب، ورأوا ـ مثلما يذكر إحسان عباس- «أن هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجمع التجربة الإنسانية إذا أُريد التعبير عنها بالشعر».
وسط السجال النقدي والإعلامي، الذي خلقته حولها، أخذت هذه الحركة الوليدة تتوجّه إلى تجريب تقنيات الكتابة الشعرية أكثر من كونها «ظاهرة عروضية» وحسب، وكان من أبرز منابر السجال النقدي وأكثرها تأثيرا في التلقي العربي؛ «منبر النقد» على صفحات مجلة «الآداب» البيروتية، حيث جرت مناقشات وردود صاخبة تعكس خطورة الحركة وما طرحته من مسائل جذرية تتعلق بالحداثة الشعرية في الوسط الثقافي العربي خلال سنوات 1950 و1960، ولا يمكن إنكار الدور التنويري الذي قامت به نازك الملائكة في هذا السجال من خلال مقالاتها التي جُمعت في «قضايا الشعر المعاصر» (1962).
كما أتاحت المجلات الأدبية، مثل: «شعر» و»الطريق» و»الثقافة الوطنية»، التي رافقت صعود الحركة، فرصة سانحة للشعراء من أجل التعبير عن حدوساتهم وخلفياتهم النظرية وصياغة وجهات نظرهم حول الشعر وحول مشروعهم الشعري. بموازاةٍ مع ذلك، برز تجمُّع مجلة «شعر» في أواخر الخمسينيات (1957)، والذي قاد هذا التجريب إلى أقصاه؛ حين اقترح «قصيدة النثر» كشكل شعري جديد، مع ما كان يصاحبها من بيانات ومقدّمات دواوين «تبشيرية» و»دفاعية» عن مطلب الحداثة عامة، وعن هذه القصيدة المثيرة للجدل على نحو خاصّ، ولم يكن هذا السجال يخلو من عنف وعنف مضادّ. لم ينطلق التنظير لقصيدة النثر في مجلة «شعر»، بشكل كثيف إلا بعد صدور كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا»، الذي تبنّى أدونيس وأنسي الحاج معظم أفكاره في تحديدهما لمفهوم قصيدة النثر وطبيعة تشكلها الفني. بيد أن مقدمة ديوان أنسي الحاج «لن» الصادر عام 1960، باعتبارها بيانا تأسيسيّا في النظر إلى قصيدة النثر ومَفْهمتها، شكّلتْ أحد وجوه العنف لطبيعتها «الراديكالية» في تعاملها مع التراث الشعري والمقدس اللغوي، عدا الخلاف الذي أثارته في وجهات نظرها حول طبيعة قصيدة النثر وموقعها من الأشكال الشعرية الأخرى. وفي المقابل، قامت ضد مقدمة الحاج مقالات وأصوات لم تسلم بدورها من نزوع دوغمائي. ويؤاخذ بعض الدارسين؛ مثل جابر عصفور، على بيانات مجلة «شعر» ومقالاتها أنها «تبدو، في غير حالة، منقطعة الصلة بما قبلها، أو غير مهتمة به».
«انفجار» عمارة القصيدة
أخذ عمل الحركة الشعرية ينتقل من مسألة الشكل الوزني- الإيقاعي الذي كان امتدادا لمحاولات الرومانسيّين التجديدية، ومن مجهودها لإدماج الشعر في الحياة العامة بعيدا عن الزخرفة البلاغية لإحيائيّي القرن التاسع عشر، إلى تحديث ما له صلةٌ بالجوهر الشعري الذي يمسُّ عمارة القصيدة ولغتها ومُتخيّلها، في ضوء تعرُّفها على قضايا العصر ومعارفه الجديدة، ويمسُّ قبل هذا وذاك مفهوم القصيدة نفسه، نتيجة انفتاحها على أجناس الأدب الحديث من قصة ومسرح وسيرة ذاتية وغيرها، واستدعائها عنصر السرد وإدماجه كتقنية بنائية تعيد تشكيل وحدة معمارها الجماليّ وتشكيلها البصري، وتسمح بتحويل الإمكانات الأسلوبية إلى أجناس هجينة، بما فيها الرسائل، والمذكرات، والأغاني، والتقارير الإخبارية، وما شابه ذلك».
وقد أدّى ذلك إلى بروز القصائد المُدوَّرة والمُطوَّلة والمُركّبة وذات المقاطع والأصوات المتعددة، التي يحتكم بناؤها إلى وحدة ديناميكية في التكوين والنسيج، بحيث لا تُفهم هذه القصيدة أو تلك إلا إذا قُرِئت كُلُّها. وحتى القصائد الغنائية سايرت هذا البناء وتخفّفت من انسيابيّتها ودفقها العاطفي العالي، بل امتزجت بشيء من النفس الدرامي، أو الملحمي الذي يضارع اللهجة المُتفجّعة والمأساوية للموضوع بنقلاته الحدثية وفروعه المتشابكة، على نحو ما صنع بدر شاكر السياب في قصائده المطوّلة: «حفار القبور» و»المومس العمياء» و»الأسلحة والأطفال». كما عملت قصائد الحوار الداخلي والدرامي، مثل التي كتبها صلاح عبد الصبور وخليل حاوي وحسب الشيخ جعفر وغيرهم، أو أدونيس في قصيدتيه «هذا هو اسمي» و»مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف»، وفي ديوانه «أغاني مهيار الدمشقي» بأجزائه السبعة المتراكبة، الذي يحاوره فيه التراث من خلال بعض شخصياته البارزة (عمر بن الخطاب، أبو نواس، الحلاج، بشّار بن برد)، على تقويض الحدود ما بين الشعر السرد، أو بين الوزن والنثر.
وجدّد عبد الوهاب البياتي في مستوى اللغة الشعرية حين قرّبها من الخطاب العادي بهاجس الاقتراب من الحياة اليومية للناس ومحاكاة واقعهم الموضوعي، مثلما حفلت قصائد سعدي يوسف ذات «النبرة الخفيضة» بالتفاصيل الصغيرة التي تجنح إلى تسريد الشعر والتقاط معاني الدهشة من موجودات عادية ووقائع «مبتذلة». وأرّخت قصيدة «سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا» بطبيعتها السردية مرحلةَ تحوُّلٍ في غنائية محمود درويش، قبل أن تنفتح على النزوع الملحمي كما في قصيدتيه المُطوَّلتين «أحمد الزعتر» و»مديح الظل العالي». وكانت مثل هذه التجارب الكتابية على اختلافٍ بينها في تَمثُّل الدراما وخصائصها، تُعبِّر عن منعطفات جمالية حثيثة لتجريب شعريّة مختلفةٍ تتجاوز القواعد المتعارف عليها باحتضانها معارفَ وأجناسا ونصوصا ووقائعَ من التاريخ والدين والفلسفة والفنّ والأدب، ومن الحياة اليومية.
ويمكن أن نستخلص من مجموع هذه النصوص والتجارب الشعرية، ما يلي:
انبثاق أنماط متعددة داخل الجنس الغنائي، تبعا لحجم القصيدة (وهي غالبا ما تكون متوسطة)، وطبيعتها وبنائها الهيكلي.
إغناء الشعر العربي ذي «المهيمنة الغنائية» بعناصر درامية وملحمية؛
الخروج عن الغنائية بثوبيها القديم (القصيدة التقليدية) والحديث (القصيدة الرومانسية) على تفاوت واضح بينهما، إلى الدرامية أو الملحمية، أو المزج بين عناصرهما؛ مثل: الحوار الداخلي، التداعي، تعدد الأصوات، الصراع، الإضاءة والمشاهد، توظيف الأقنعة والرموز الكُلّية، البناء الدرامي ذي الفروع المتشابكة، إلخ؛ وبخاصة إذا طالت القصيدة وتعدّدت توالُجاتها الداخلية وإحالاتها المرجعية.
تقويض الحدود بين الشعر والنثر، والعبور من الجنس الواحد إلى تعدّد الأجناس.
لقد استطاعت هذه التحويلات أن تعيد مَوْضعة الملفوظ الشعري في بناء متحرك خارج الرؤية الغنائية المتمركزة، وأن تتصالح مع «نثريّة» الجملة الشعرية وهي تتجاوز حدود السطر الشعري وتتمدّد ـ بنائيّا ودلاليّا- لاستيفاء بعض عناصر سرد الواقعة أو الموضوع، إلى درجة أن يكون هذا «التنثير» جزءا من استراتيجية الهدم والبناء، التي صار الشاعر المعاصر ينهجها في بناء أسلوبه الجديد، الذي يناقض «أُبّهة الفخامة البلاغية» بقصد الانتهاك ونقض المجمع عليه والمحاكاة الساخرة، على نحو ما نجد عند محمد الماغوط بصورة أساسية في «انفجاراته الاستعارية الهاذية»، أو لدى بعض الجماعات الشعرية المتمردة، مثل جماعة كركوك التي كان أفرادها في شقاق مع المجتمع، يهزؤون مما
فيه من المزايا والسلطة ومظاهر التكريم. وكانت هذه البلاغة بمثابة ردّ احتجاجي على حداثة الشكل المنظم والمتجانس، وصار بوسعها أن تُعبِّر عن الانشغالات الجديدة للشاعر المعاصر الذي لم يعد يُرضيه أن يؤدي دور المُبشِّر والمُخلِّص والرائي العرّاف، بل أمسى ما يعنيه هو الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والأشياء الحميمية التي يقتنصها من ثراء تجربته الشخصية، مسكونا بهاجس البحث بالكلمات عن قيم جديدة ووطن بديل ومحلوم به. وبالتالي، لم تكن الرغبة في التجديد الشكلي إلا بما تتيحه صيغة العمل الشعري من رهانات تعبيرية، أو تمدُّه بموارد حكائية متنوعة قادرة على تحقيق مُتطلّبات الحداثة الشعرية، والكشف عن نزوعات شعرائها الفردية، وقضاياها المعرفية والفلسفية والأنطولوجية، ومواقفها من التراث، والآخر، والمجتمع، والثقافة واللغة، بشكل جذري ومختلف.
******************
المصادر :
– موقع القدس العربي
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
***********


