رحلة عبر الزمن لنتعرف على “سد مأرب” العظيم.الذي شيد بالقرن 18ق.م.في قلب الصحراء اليمنية القاحلة.

.. في قلب الصحراء اليمنية القاحلة، وتحديداً في القرن الثامن قبل الميلاد، لم تكن مملكة سبأ مجرد تجمع قبلي عابر، بل كانت معجزة هندسية تحدت قوانين الطبيعة القاسية؛

  • دعني أصحبك يا صديقي في رحلة عبر الزمن لنقف بخشوع أمام “سد مأرب” العظيم، ذلك الصرح الذي لم يكن مجرد حائط لصد الماء، بل كان منظومة هيدروليكية سابقة لعصرها، بلغ طوله حوالي 650 متراً، وارتفاعه يناهز 16 متراً، شُيد بذكاء من صخور بركانية وكلسية صلبة رُبطت – كما في بعض المصادر – بقضبان من الرصاص والنحاس لتقاوم الزلازل وعوامل التعرية.
  • لقد حول هذا السد مساحة تقدر بـ 9,600 هكتار من الرمال الميتة إلى “جنتين” وارفة الظلال، لدرجة أن المرأة كانت تمشي والمكتل على رأسها فيمتلئ بالثمار المتساقطة دون أن تمد يدها لقطفها، موفراً الأمن الغذائي لأكثر من 50,000 نسمة.
  • لقد وصلوا إلى قمة الهرم الحضاري، وظنوا أنهم امتلكوا مفاتيح الرزق للأبد، حتى أنهم بطروا النعمة، فقالوا بلسان الحال والمقال: “ربنا باعد بين أسفارنا”، وهنا بدأت القصة تأخذ منحى دراماتيكياً مرعباً.
  • فبينما كانت الهندسة البشرية تزهو بقوتها، كان هناك جندي خفي ضئيل الحجم يعمل بصمت؛ تذكر بعض الروايات أن “الجرذ” أو “الخلد” – كائن لا يتجاوز وزنه بضعة غرامات – بدأ ينخر في أساسات هذا العملاق الحجري، مستغلاً غفلة القوم عن الشكر، فانهار السد العظيم في لحظة “سيل العرم”، لتتحول الـ 24,000 فدان الخضراء في لمح البصر إلى أرض يباب لا تنبت إلا “الخمط والأثل”، في سقوط حر من قمة النعيم إلى قاع الجحيم.

.. ولكي تتضح الصورة أكثر في ذهنك يا رفيقي، دعنا نطير من رمال اليمن الحارقة إلى مياه البلطيق الباردة، وتحديداً إلى استوكهولم عام 1628م، لنشهد مأساة “فاسا” (Vasa).

  • تلك السفينة التي كان يُفترض أن تكون أعظم آلة حرب في زمانها، لقد أمر الملك “غوستاف الثاني” ببنائها لتكون فخر الإمبراطورية السويدية.
  • حُشدت لها أطنان من خشب البلوط، وزُينت بـ 700 منحوتة مذهبة لترهب الأعداء نفسياً قبل عسكرياً، وسُلحت بـ 64 مدفعاً برونزياً ثقيلاً.
  • وفي يوم 10 أغسطس، احتشد الآلاف على الميناء ليشهدوا إبحار هذه القلعة العائمة، لكن ما حدث كان صادماً بكل المقاييس.
  • فبعد أن أبحرت السفينة لمسافة لا تتجاوز 1300 متر فقط (أقل من ميل واحد)، هبت “نسمة هواء” خفيفة جداً.
  • نعم مجرد نسيم عابر، لكنه كان كافياً ليجعل السفينة تميل على جنبها، فتدفقت المياه عبر فتحات المدافع السفلية التي تُركت مفتوحة للتباهي، وفي دقائق معدودة، ابتلع البحر فخر الصناعة السويدية أمام أعين الملك والشعب، آخذة معها أرواح ما يقارب 30 بحاراً إلى القاع.
  • لقد غرقت السفينة ليس بسبب عاصفة هوجاء، بل بسبب خطأ في الحسابات وغرور في التصميم، حيث أُثقلت الطوابق العليا بالمدافع الثقيلة على حساب توازن السفينة، لتخبرنا القصة أن القوة الظاهرة قد تخفي داخلها بذور فنائها.

.. دعني أشرح لك يا صاحبي المفهوم العلمي الدقيق الذي يربط بين جرذ مأرب ونسيم فاسا، إنه ما يُعرف في الفيزياء والهندسة بـ “الاستقرار الهش” (Metastability)،

  • تخيل الأمر معي كقلم رصاص يقف متوازناً على سنه المدبب؛ هو يبدو ثابتاً للناظر، لكنه في الحقيقة في حالة توازن قلق جداً، فأي دفعة طاقة مجهرية – مهما صغرت – كافية لإخراجه من توازنه وإسقاطه.
  • في حالة السفينة “فاسا”، كان “مركز الثقل” (Center of Gravity) مرتفعاً جداً فوق “مركز الطفو”، مما جعل استقرارها وهماً بصرياً.
  • وكذلك كان حال قوم سبأ، بنوا حضارة شاهقة مادياً، لكن “مركز ثقلها الأخلاقي” كان خاوياً من الشكر، فكانت حضارتهم في حالة “استقرار هش”، تنتظر فقط “الدفعة” الصغيرة (الجرذ) لتنهار المنظومة بأكملها.
  • هذا القانون الفيزيائي هو انعكاس لناموس كوني خلقه الله تعالى : الأنظمة التي تفتقر للجذور العميقة (سواء كانت جذوراً هندسية في السفينة، أو جذوراً إيمانية في الحضارة) لا يمكنها الصمود مهما بدا مظهرها الخارجي مهيباً.

.. هنا يجب أن ننتقل إلى السؤال الوجودي الأعمق “لماذا ينهار الأقوياء بأتفه الأسباب؟”

  • إن التاريخ والعلوم يصرخان بحقيقة واحدة:
    “السيطرة البشرية وهم”
  • نحن نعيش في كون دقيق، الذرة فيه قد تغير مجرى التاريخ، وغرور الإنسان يجعله يركز على ضخامة البناء وينسى سلامة الأساس.
  • إن السفينة لم تغرقها الرياح، والسد لم يهدمه الجرذ، بل هدمهم “الاغترار بالأسباب” ونسيان “مسبب الأسباب”، فعندما يطغى الإنسان ويظن أنه مخلد في نعيمه، يسلب الله “خاصية الحفظ” من المادة، فيتحول الماء الذي هو سر الحياة إلى طوفان، ويتحول الهواء الذي هو سر التنفس إلى قوة إغراق، لتدرك البشرية أن الأمان ليس في المادة الصماء، بل في العناية الإلهية اللطيفة التي تمسك السماء أن تقع على الأرض.

.. يقول الله تعالى في سورة سبأ واصفاً بدقة هذا المشهد: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}.
.. تأمل معي كلمة {أَعْرَضُوا}، فهي تشخيص دقيق لحالة الانفصال عن المصدر الحقيقي للنعم، إن الإسلام يعلمنا عبر سنة نبينا محمد ﷺ أن النعم “وحشية” (أي سريعة النفار) وأن قيدها الشكر.

  • فمهما شيدت من سدود وبنيت من سفن، يظل الأمان الحقيقي في القلب الموصول بالله، فمن كان في معية الله، كان الماء له طريقاً يبسًا كما كان لموسى، ومن انقطع عن الله، كان الماء عليه طوفانًا مغرقًا كما كان لفرعون وأهل سبأ.
  • فالعبرة يا صديقي ليست في عظمة البناء، بل في طهارة البناء.

أخر المقالات

منكم وإليكم