“اللي بيتو من طين.. غير اللي بيتو من عجين”
البيت الطيني والبيت العجيني:
حكاية الريف وحكمة الأجداد مفعمة برائحة الأرض والعادات القديمة في أبهى صورها..
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
في زوايا ريفنا السوري العتيق حيث تحتضن الأرض النبيلة الذاكرة وتتنفس السماء عبق الياسمين تروي الأمثال حكاياتها كما تُشَعرُ الرياح بأسرارها. في كل زاوية من تلك البيوت المتناثرة بين الزهور والشجر، هناك حديث لا ينتهي عن الحب، والتضحيات، والنقاء، وعن تلك اللحظات التي تُشَمُّ فيها رائحة الخبز الطازج من تنور الحارة، وتختلط بها عطور البخور المتصاعدة من المشاعل القديمة.
“اللي بيتو من طين… غير اللي بيتو من عجين”.
هكذا يُقال في اللسان الطيِّب لكل من أراد أن يعرف الفرق بين الثبات والتقلب بين الدوام والزوال. وفي كل كلمة من هذا المثل تنبعث رائحة تراب الأرض الطيبة. ورائحة العرق الذي يقطر من جبين الفلاحين وهم يعمرون بيوتهم الطينية يضعون فيها أثقال حياتهم وهموم أيامهم ولكنهم يضعون فيها أيضًا كل أملٍ وفرحٍ كان ينساب بين ضلوعهم في صمت.
البيت الطيني هو ذلك المكان الذي ينبض بالحياة كما ينبض قلب الجدَّة وهي تجلس أمام المدفأة القديمة. هو جدران تُحيطها المحبة وسقفٌ يحميه الزمن وأبوابٌ خشبية تشهد على فصولٍ طويلة من العيش المشترك. حيث الكل يعرف بعضهم البعض وحيث تتسلل أصوات الحياة البسيطة في كل زاوية. في البيت الطيني نجد رائحة الخبز وهو ينضج في تنور الطين والهواء محمَّل بعطر الحطب والريحان الذي يفوح من الحقول المجاورة. في تلك البيوت لا يوجد مكان للمظاهر . ولكن هناك مساحة واسعة للصدق والمحبة.
أما البيت العجيني فهو صورة أخرى للحياة، مُزخرفة لكنها هشة. تشبه ذلك العجين الذي يُعجن باليدين يخرج من الفرن متوهجًا لكنه لا يلبث أن يتفكك مع أول لمسة أو مع أول ريح. هو بيت يروي قصصًا عن الزخارف الظاهرة والمظاهر التي تخدع العين، لكنه يفتقر إلى الجذور التي تغني القلب. كالعجين الذي يُخبز بحب لكنه لا يملك الصلابة التي تجعل منه خبزًا دائمًا. وكم من مرة ترى بيوتًا تعلو في السماء لكنها تهوي عند أول رياح تأتي لأن أساسها ليس متينًا كما الأساس الذي تبنى عليه البيوت الطينية بل هو هش كالخيوط العائمة في الهواء.
البيت الطيني مهما كانت جدرانه مغطاة بالغبار يبقى أصدق لأنه يحمل بين طياته آلاف الذكريات والضحكات التي تملأ الزمان والمكان. فيه تجد الدفء الحقيقي لا فقط من اللهب الذي يشتعل في المدفأة بل من الحب الذي يغمره ومن الجدران التي امتلأت بأحلام الناس وأفراحهم.
أما البيت العجيني فهو مثل العيد الذي يأتي سريعًا بكل زينته ورائحته الحلوة لكنه لا يبقى طويلًا. مثل الفرح السريع الذي يذوب بعد ساعات من ظهوره دون أن يترك في النفس أثرًا عميقًا بل يبقى في الذاكرة فقط كحلاوة مؤقتة أو كعطرٍ يفوح لكنه لا يثبت في الأرجاء وفي النهاية
“اللي بيتو من طين… غير اللي بيتو من عجين”.
هو أكثر من مجرد مثل هو دعوة للتمسك بالجذور.
بالصدق.
والوفاء للأرض.
دعوة للاحتفاظ بالبساطة في عالم يعج بالمظاهر والتمسك بما هو صلب وثابت حتى وإن كان بسيطًا.
بين الطين والعجين نجد الحياة.
البيت الطيني يروي لنا حكاية الإنسان البسيط الذي يزرع الأمل في قلب الأرض ويزرع النقاء في كل فعل.
أما البيت العجيني فهو لحظة بهجة سريعة سرعان ما تذوب وتزول تاركةً في القلب شوقًا لشيء أعمق وأبقى.
د.غسان القيم


