الزمن في السينما: من المونتاج السوفياتي إلى فلسفة تاركوفسكي
عمرو أبو العطا
• من إيسنشتاين وفيرتوف إلى تاركوفسكي.. الزمن والإيقاع والجماليات السينمائية
السينما منذ بدايتها لم تكن مجرد وسيلة لتسجيل الأحداث، إنما أداة للتأمل في الإنسان والزمن والوعي. من التجربة السوفياتية الأولى إلى الفلسفة العميقة لأندريه تاركوفسكي، تظهر الصورة المتحركة كمساحة للتفكير والشعور، لفهم الروابط بين الفرد وتاريخه، والطبيعة وذاكرته.
ولد أندريه تاركوفسكي عام 1932م. في مدينة لاوفرازه بمقاطعة إيفانوفا في الاتحاد السوفياتي، وتوفي في 29 ديسمبر/كانون الأول 1986م. بعد أشهر قليلة من صدور فيلمه الأخير “التضحية”.
خلال حياته، قدم سلسلة أعمال شكلت بصمة سينمائية فريدة، منها: طفولة إيفان (1962)، أندريه روبليف (1966)، سولاريس (1971)، المرآة (1975)، المتسكع (1979)، نوستالجيا (1983)، جامعا بين تجربتين، شخصية وعالمية، معيدا تعريف الزمن والإيقاع في السينما.
لفهم فلسفة تاركوفسكي، يجب العودة أولا إلى التجربة السوفياتية الأولى، حيث ظهر سيرجي إيسنشتاين ودزيغا فيرتوف.
في فيلم إيسنشتاين “Battleship Potemkin” (1925)، استُخدم المونتاج ليس فقط لسرد تمرد الباخرة بوتيمكين، بل لإشراك المشاهد في تجربة الثورة، من خلال مشاهد مثل البنادق التي تخفي وجوه القوزاق، وحركة الجماهير، والزوايا المركزة التي توحي بالتهديد والعدالة.
المونتاج القصير والمتتابع يخلق شعورا بالتسارع والإيقاع التاريخي، لكنه أحيانا يفسّر الربط بين الأحداث بما يشبه البرهان الهندسي. يقول إيسنشتاين في Perspectives: “السينما يمكنها تجسيد جوهر الثورة عبر ترتيب الصور بما يعكس فكرة الديالكتيك”.
إيسنشتاين وفيرتوف استخدما المونتاج: الأول لتحريك رسالة سياسية، والثاني لتجربة فلسفية واجتماعية. أما تاركوفسكي، فجاء بعد نصف قرن ليجعل الزمن داخل كل لقطة العنصر الأساسي، والمونتاج وسيلة ثانوية لتنظيم الإيقاع، لا لتحديد المعنى الرئيسي.
في المقابل، اتخذ فيرتوف في “Man with a Movie Camera” (1929) مقاربة مختلفة، متجنبا الحبكة التقليدية، مركزا على الحياة كما هي والحركة اليومية، ومقارنا الإنسان بالآلة. استخدم المونتاج لجمع لقطات متشابهة موضوعيا، مثل لقطات الإنسان والآلة، لإبراز التباين بين قدرات الإنسان والتكنولوجيا
*الحركة هنا أهم من الشكل، وزوايا التصوير تعكس فلسفة Kino-eye وKino-pravda، حيث يهدف الفيلم إلى تنقية إدراك المشاهد وكشف الحقيقة المخفية.
إيسنشتاين وفيرتوف استخدما المونتاج: الأول لتحريك رسالة سياسية، والثاني لتجربة فلسفية واجتماعية. أما تاركوفسكي، فجاء بعد نصف قرن ليجعل الزمن داخل كل لقطة العنصر الأساسي، والمونتاج وسيلة ثانوية لتنظيم الإيقاع، لا لتحديد المعنى الرئيسي.
تتضّح فلسفة تاركوفسكي في كتابه “نحت الزمن: تأملات في السينما”، إذ يقول: “الزمن، المطبع في أشكاله ووقائعه، هو الفكرة العليا للسينما كفن… ومنه أبني فرضيتي العملية والنظرية”.
في “طفولة إيفان” (1962)، نرى إدراك الطفل الروسي للحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حيث يتحرك الزمن كتجربة حسية، فيها مزيج من الفرح والخوف. الأحداث التاريخية مثل معركة ستالينغراد (1942-1943) أو الحصار الطويل للمدن الروسية، تنعكس في الإدراك الطفولي، لتصبح التجربة التاريخية جزءا من الوعي والذاكرة الشخصية.
أما في “أندريه روبليف” (1966)، فيدمج تاركوفسكي حياة الرسام الروسي في القرن الـ15 مع غزوات التتار والحروب الأهلية، لتصبح الأحداث التاريخية عنصرا للمعاناة والإبداع. مشاهد التدمير والحرائق ومسيرات الحجاج تخلق شعورا بالذاكرة الجماعية، وكأن الزمن يتدفق بشكل عضوي، متجاوزا التتابع المنطقي للأحداث.
في “سولاريس” (1971)، يظهر التباين بين الزمن التكنولوجي والزمن الطبيعي، حيث تعكس لقطات الطرق السريعة والمباني سرعة الحياة، ثم ينتقل الفيلم فجأة إلى بيت الطفولة، ليهدأ الزمن ويتيح نافذة للذاكرة الإنسانية، مستحضرا فلسفة بيرغسون عن “المدة” (Duration).
تاركوفسكي يختلف عن إيسنشتاين وفيرتوف في أن الزمن عنده ليس مجرد أداة للسرد أو لنقل رسالة، بل هو عنصر فلسفي وجمالي. الزمن الحي عنده، متصل بالوعي الإنساني والمشاعر والذكريات، متدفق، حي، لا يقبل التجزئة.
أما في “المرآة” (1975)، فتندمج الذاكرة الشخصية مع التاريخية، بين الحرب الإسبانية (1936-1939) والحرب العالمية الثانية (1939-1945)، والثقافة السوفياتية في ستينيات القرن العشرين، لتخلق تجربة زمنية متعددة الطبقات، حيث الزمن يتدفق، لا يقسم ولا يخضع لتسلسل صارم.
الإيقاع عند تاركوفسكي ينبع من الطبيعة (الماء، الرياح، النار، الثلج، النباتات)… في “أندريه روبليف”، تتناغم حركة الكاميرا مع التجديف البطيء للزورق، وفي “المرآة” تحرك الرياح الأشجار لتعكس الحالة النفسية للشخصيات، وفي “نوستالجيا” (1983)، يخلق صوت المطر المستمر إيقاعا سمعيا يعكس العزلة والحنين العميق إلى الوطن.
حتى حين يستخدم التحرير، يكون الهدف توضيح ضغط الزمن داخل اللقطة، وليس فرض تسلسل صارم. في “المتسكع” (1979) و”التضحية” (1986)، تكشف الحركة الطويلة للكاميرا واللقطات البطيئة عن الوعي والذكريات والزمن الداخلي للشخصيات، ليصبح المشاهد شريكا في الإحساس بكل نبضة زمنية.
تاركوفسكي يختلف عن إيسنشتاين وفيرتوف في أن الزمن عنده ليس مجرد أداة للسرد أو لنقل رسالة، بل هو عنصر فلسفي وجمالي. الزمن الحي عنده، وفق بيرغسون (Duration)، متصل بالوعي الإنساني والمشاعر والذكريات، متدفق، حي، لا يقبل التجزئة..
الطبيعة ليست مجرد خلفية، بل هي شريك في تجربة الزمن، حيث الأمطار والثلوج والرياح تدخل المشهد لتصبح جزءا من الإحساس الداخلي للشخصيات.
في “نوستالجيا”، يرى أندريه وطنه الروسي داخل كاتدرائية رومانية، مع تساقط المطر والثلج على مستويات مختلفة، ليخلق انسجاما بين الزمن الحلمي والزمن الواقعي، وبين الذاكرة والإدراك، وبين الحنين والفعل الواقعي.
وفي “التضحية” يقول تاركوفسكي: “سأسعى إلى صدق أكبر وإقناع في كل لقطة، مستخدما الانطباعات المباشرة للطبيعة، التي ترك فيها الزمن أثره”.
في ختام الرحلة عبر الزمن والإيقاع والجماليات السينمائية، يتضح أن تاركوفسكي لم يقدم مجرد فيلم، بل تجربة حية للوعي والذاكرة، حيث تتناغم الطبيعة والزمن والإيقاع لخلق فضاء شعوري وروحي.
تجربة تاركوفسكي تقترب من فلسفة بيرغسون، حيث يتلاقى الماضي والحاضر، الذاكرة والإدراك، الواقع والخيال. الطبيعة ليست مجرد خلفية، بل هي جزء من الإحساس الداخلي للشخصيات، تدخل البيوت، وتحرك المشاهد، وتصبح عنصرا فعالا في تجسيد الزمن.
التحليل المقارن للكاميرا والإيقاع بين الثلاثة يُظهر اختلاف أساليبهم بوضوح.. إيسنشتاين استخدم مونتاجا قصيرا وتسلسلا منطقيا، مع رسائل سياسية واضحة، وأحداثه مرتبطة بالفترة من 1917 إلى 1925، بما في ذلك ثورة أكتوبر/تشرين الأول.
أما فيرتوف، فاعتمد على مونتاج تجريبي، وركز على مقارنة الإنسان بالآلة، مستخدما لقطات قصيرة وسريعة، مع التركيز على الحركة أكثر من الجماليات، مستعرضا الحياة في روسيا خلال عشرينيات القرن العشرين.
أما تاركوفسكي، فاختار لقطات طويلة تمنح إيقاعا داخليا للزمن، مع مشاركة المشاهد في الوعي، ودمج الطبيعة والذاكرة، مستعرضا أحداث القرن العشرين، مثل الحرب العالمية الثانية، والثورة الثقافية، والحياة اليومية في روسيا السوفياتية خلال الستينيات والسبعينيات.
في فيلم “المرآة”، تظهر لقطة “بيت الطباعة” الطويلة، حيث تتابع الكاميرا الأم، وهي تتحرك خلف نصوص الصحيفة، ويحدد جهاز وجه ستالين في الإطار، لتؤكد القمع التاريخي، وهي مشابهة لمونتاج فيرتوف، لكن بطء وتمهل تاركوفسكي يمنحان المشهد بعدا نفسيا أعمق.
كما نجد في نفس الفيلم لقطة Ignat أمام المرآة، حيث يلتقي الضوء الدافئ بالبارد، وتتغير الموسيقى لتعكس التناقض النفسي للشخصية، في مقابل مونتاج إيسنشتاين القصير الذي يعبر عن العاطفة بشكل مباشر.
في فيلم “نوستالجيا”، يظهر المطر والثلوج متعددة الطبقات، ليعكسا التداخل بين الزمن الحلمي والزمن الواقعي، وهو ما يختلف عن أسلوب فيرتوف الذي يركز على الحركة والآلة فقط، دون مستويات زمنية متعددة.
بهذه الأمثلة، يتضح أن تاركوفسكي صنع سينما مختلفة، حيث يصبح المشاهد شريكا في الشعور بالزمن والوعي، وتتكامل عناصر الزمن والطبيعة والذاكرة والإيقاع لتخلق تجربة سينمائية فريدة، تتجاوز الصورة الميكانيكية، لتصبح فلسفة حياة وتجربة شعورية وروحية متكاملة، تتخطى حدود المنطق السردي التقليدي.
في ختام الرحلة عبر الزمن والإيقاع والجماليات السينمائية، يتضح أن تاركوفسكي لم يقدم مجرد فيلم، بل تجربة حية للوعي والذاكرة، حيث تتناغم الطبيعة والزمن والإيقاع لخلق فضاء شعوري وروحي.
السينما عنده تصبح حياة تتجاوز الصورة الميكانيكية، لتصبح مساحة يتلاقى فيها الحلم بالواقع، والذاكرة بالإدراك، لتكشف أعمق طبقات الإنسان وإحساسه بالزمن.
***&&&***
المصادر:
عمرو أبو العطا- الجزيرة ،نت.
– الجريدة www.aljarida.com
– https://p.dw.com الألمانية –
_ موقع أبراج نيوز
– صحيفة: البيان الإلكترونية
– الشرق الاوسط
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
مسقط – العمانية
– اليوم السابع – موقع: وضاح فوتو
الموقع الإلكتروني : victory-Jo.com
– مراسي – الزهراء
صفحة الفيس Kerolos M Takla
– صحيفة سبق الإلكترونية- وكتلة سرمد
– النهار – الجريدة – «عكاظ»
الرياض – العربية نت – بي بي سي .كوم BBC.com
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مواقع إلكترونية: المجلة- القدس العبي
الجزيرة+ العربية نيوز – فرانس24/ أ ف ب
– اخبار فن التصوير- rafik kehali
– الوسط – الألمانية
– دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)
– جائزة هيبا – الإمارات اليوم – القدس العربي
– موقع المستقبل – موقع سينماتوغراف
– مجلة فن التصوير الإلكترونية.
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
********


