بقلم الشاعر عبد الواسع السقاف
من بين القضايا الأدبية التي مازال الجدال فيها عميقا من عقود “الترجمة الأدبية”؛ إذ يقف النقّاد بين رأيين متعارضين: أحدهما يرى أنها خيانة وتشويه للنص، والآخر يراها خلق لنص أدبي جديد. وبين الرأيين مساحة واسعة للتأمل.
أولًا: الترجمة بوصفها خيانة للنص الأصلي:يرى جمهور المحافظين أن الترجمة، مهما بلغت دقّتها، تُفقِد النص جزءًا من خصوصيته وبريقه. فاللغة ليست مجرد كلمات، بل نغم وإيقاع وثقافة تحيا بين السطور. وهم بذلك ينظرون للنص المترجم بأنه يساهم في ضياع الإيقاع والأصوات. فالموسيقى الداخلية للشعر العربي مثلا — البحور والإيقاعات — لا يمكن نقلها إلى لغة أخرى.
مثال: لو ترجمنا بيت المتنبي(الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيف والرمحُ والقرطاسُ والقلم) نقل هذا البيت للغات أخرى يفقد التوازن الإيقاعي وجرس القافية، فتتبقى المعاني بدون الهيبة الصوتية التي تميّزه في اللغة العربية.
كما أن النص المترجم يساهم في ضياع الإيحاء الثقافي، فبعض الكلمات تحمل عمقًا لا تُترجمه مفردة في لغة أخرى.مثال: كلمة “الكرم” في الثقافة العربية لا تعني السخاء فقط، بل ترتبط بالصحراء والأدب والقبيلة والشرف. ترجمتها إلى كلمة generosity في اللغة الإنجليزية لا تنقل كامل هذه الشبكة من الدلالات.ناهيك عن اضطرار المترجم إلى الحذف أو التعديل في النص الأصلي (وتسمى هذه الخطوة بالترجمة بتصرف)، وذلك لأن بعض الكلمات والتراكيب اللغوية قد لا تجد مقابلًا لها في اللغة الأخرى.مثال: في روايات نجيب محفوظ، بعض العبارات الشعبية المصرية (الغُفْر، الجدعنة، الفتوة، النبوت) تفقد روحها تمامًا عند الترجمة، فيلجأ المترجم لاستبدالها أو شرحها، مما يُعدّ “تحويرًا” للنص.ومن هنا جاء القول بأن الترجمة خيانة للنص الأصلي، لأنه لا يعود في الترجمة كما كان.
ثانيًا: الترجمة إعادة خَلق وإحياء للنص:
ويرى أنصار الحداثة أن الترجمة ليست نقلًا حرفيًا، بل هي ولادة جديدة لنص إبداعي. فالمترجم ليس موظفًا لغويًا، بل كاتبٌ ومبدعٌ ثانٍ يعيد كتابة العمل في لغة أخرى. وهو بذلك يساهم في ذيوع النص وانتقاله بين الثقافات.فلولا الترجمة، لخسر العالم آلاف الروائع ولما سمع ولا استمتع بها.
مثال: مسرحيات شكسبير وصلت إلى العالم والعرب عبر ترجمات شكّلت ذائقة أجيال كاملة. ومن دون الترجمة، كان سيبقى شاعرًا إنجليزيًا محدود التأثير في بلاده.
كما أن قدرة المترجم على خلق عمل وجمال جديد مسألة تم الاعتراف بها أكثر من مرة، فبعض الترجمات تفوقت — بنظر القرّاء — على الأصل.مثال: ترجمة الشاعر أحمد الصافي النجفي لـ”رباعيات الخيام”؛ فقد صاغها بأسلوب عربي شعري رائق، حتى قال بعض النقاد إن النص العربي أجمل من الفارسي.
وأخيرا، فالترجمة كما يقولون تقوم بإعادة تشكيل الروح لا الشكل، والمترجم المبدع يلتقط الجوهر وينقله.ومثال ذلك: ترجمات سامي الدروبي لروايات دوستويفسكي، التي امتازت بعمق نفسي أقرب للروح الروسية من كثير من الترجمات الأخرى، حتى أصبحت هي النسخة المفضّلة لدى القرّاء العرب. لذا يقول أصحاب هذا الاتجاه أن الترجمة ليست خيانة، بل عملية خلق ثانية تحفظ روح النص وتمنحه حياة جديدة.
وبين الخيانة والخلق نتساءل: أين تكمن الحقيقة؟الحقيقة التي نراها واضحة هي أن الترجمة الأدبية تقف في منطقة وسطى بين الرأيين، فهي خيانة إذا لم تستطع الحفاظ على كافة التفاصيل. وهي خلق لأنها تبدع النص في لغة جديدة وتتيح له أن يقرأه ملايين البشر الذين لم يكونوا يعرفونه.
وعليه فالترجمة الأدبية ليست ممارسة لغوية فقط، بل مغامرة جمالية بين نصّين وروحين.وقد تكون خيانة جميلة… أو خلقًا مدهشًا… وفي كلتا الحالتين، تظلّ الترجمة جسرًا ضروريًا يعبر عليه الأدب ليصل من روح إلى روح.


