أدونيس: التجاوب وأسلوب «الكولاج»
منصف الوهايبي
يقول أدونيس مخاطبا القارئ: «وأنت أفهمني أيها الضائع، أيتها الشجرة المنكوسة، يا شبيهي». هذه الصورة تصلح في تقديرنا أن تكون مدخلا، لمظاهر التجاوب بين الأجناس الأدبية في «مفرد بصيغة الجمع»؛ إذ هي أشبه بـ»كولاج» أو تراسل بين صورتين متباعدتين: إحداهما لبودلير «أيّها القارئ المرائي، يا شبيهي ويا أخي»، والأخرى ينسبها المسعودي في «مروج الذهب» إلى أفلاطون «إن الإنسان نبات سماوي، والدليل على هذا أنّه شبيه بشجرة منكوسة أصلها في السماء وفرعها في الأرض»، لكن بأسلوب قرآني «ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء». (إبراهيم 24)
تنحو قصيدة النثر عند أدونيس باتّجاه الفنون البصرية، وكأنّها «نوع (جنس) فوضويّ»، بعبارة سوزان برنار، أو «هجين» وهو وصف محايد وليس تنقّصيّا، كما قد يقع في الظن، والكلمة العربية مثلها مثل قرينتها الأجنبية محكومة بسياقها، وليست «معيبة» في كلّ استعمالاتها؛ والمقصود هذا الاسم الذي يجمع بين جنسين «الشعر/ النثر»، فهو «ضديد»، أو ضرب من «الاختلاق الإحالي (الاستحالي)». وهو مصطلح لحازم القرطاجنّي، الذي يقسّم الاختلاق إلى إمكاني وامتناعي، وإحالي أو استحالي؛ أي هو خارج الأجناس الأدبية المعهودة، على الرغم من أنّه «يتلاقى» والقصة القصيرة، والحكاية في غير قليل من سماتها. وهو مظهر من التراسل، أو التجاوب نحاول تبيانه، من خلال أمثلة من شعر أدونيس في «مفرد بصيغة الجمع» يتداخل فيها الشعري والفلسفي و»الديني والقصصيّ والأسطوريّ». فـ»قصيدة النثر» نصّ يكتب خارج القواعد والتقاليد الأدبية، ولئن تقبّلته الآداب الغربية، كما هو الشأن عند الفرنسيين مثلا، إذ يعود الدارسون إلى بعض روايات روسو وشاتوبريان، وقد سموها شعرا منثورا؛ فإنّ هذا النوع الشعري لا يزال موضوع سجال في الثقافة العربية المعاصرة، على الرغم من أنّه ظهر في الأدب العربي منذ حوالي قرن وربع، مع أمين الريحاني في بدايات القرن العشرين (1905) أي قبل ظهور قصيدة التفعيلة بأربعة عقود. ولكن قصيدة النثر لم تظهر مع بودلير، وإنما مع ألوسيوس برتراند (1807ـ 1841) في نصّه «غاسبار الليل»، وهو «فانتازيا متحرّرة من القيود التقليديّة على طريقة رمبراندت ودو، كما وصفه صاحبه، وغاسبار» اسم علم (اسم قديس)، والبعض يرجّح أنّه من أصل فارسي قد يكون معناه «حارس الكنز»، والبعض يراه من أصل هندي أو سنسكريتي معناه «العرّاف»، أو «المستبصر» أو «الرائي».
على أنّ ما يعنينا هو التجاوب، أو التراسل في قصيدة النثر التي ما تنفكّ تفاجئ قرّاءها خارج البنية الإيقاعية المأثورة، أو هي بعبارة بودلير تحقّق «معجزة النثر الشعري موسيقيّا دون إيقاع ودون قافية، بسلاسة أكثر ومواجهة أشدّ، من أجل أن تناسب أهواء الروح (ميول) في غنائيّتها». وهي بهذه «النثريّة» تقطع صلة الشعر بالموسيقى وبالأذن، وتنقلنا إلى «نصّ بصريّ» أشبه بالرسم الحيّ، أو بريشة الرسّام في تموّجاتها و»ضرباتها».
وفي هذا على ما نرجّح، يكمن البعد «التشكيليّ» في «مفرد بصيغة الجمع» و»الفانتازيّة» الإيقاعيّة المتحرّرة من القيود التقليديّة. وهو مظهر من مظاهر التجاوب، أو التراسل نفصّله تتميّز به «القصيدة البصرية». ويميّز الباحثون بين «القصيدة البصرية» و»القصيدة المكتوبة»، أو «المطبوعة» (من الطباعة). والبصريّة بدأت مع ستيفان ملارميه في «أبدا لن تعطّل الصدفة رمية نرد» ثم مع أبولينير 1918 في «كاليغرام»؛ وهي من نحته وقد ركّبها من نعت وكلمة من اليونانيّة، والمقصود بها «الكتابة بجمال». وقد لا نملك سوى الاحتفاظ بالكلمة كما هي «كاليغرام»، ثمّ تطوّرت مع «الفضائيّة» لبيير غارنييه.
وأدونيس شاعر ومفكّر و»رسّام كولاج»، أو»مُلصّقة»، وتردّ قوّة نصّه كما هو الشأن في اللوحة، إلى اللون وفروقه وظلاله الخفيّة وتدرّجاته، وإلى التباين، والألوان المعبّرة، أو الواقعية، أو الرمزية، أو الدافئة، أو الباردة الباهتة، أو الزاهية؛ مثلما تردّ إلى مادة الصورة وما هو سميك أو ناعم أو خشن أو سائل أو شفيف. هو يعيش منذ سنوات بعيدة في الغرب (فرنسا)؛ بيد أنّه لا ينقطع في كتاباته عن الجذور الثقافية والجغرافية العربية، والبيئة الشامية التي عاش فيها طفولته وشبابه. وثمّة أوجه تشابه بين «الملصقة» وكتاباته، حيث نصّه الذي نحن فيه، جزء من «تلاقي» الكتابة التصويرية والشعر؛ وحيث التوازي بين «الرسام» والشاعر، بين مراقب اللوحة وقارئ اللوحة، قائم في كثير من أعماله الشعرية.
و»الكولاج» أسلوب فنّي مداره على الجمع بين عناصر ذات طبيعة مختلفة: موادّ مثل القماش الزيتي المطبوع أو الرسم، ومقتطفات من الصحف والنصوص والصور الفوتوغرافيّة، والورق المطلي، والترقيع، أو خياطة قطع مختلفة من القماش أحجاما وأشكالا وألوانا.. وقد شاع منذ العقد الأوّل من القرن العشرين في مجالات الفنون البصرية وفنون الأداء والموسيقى والأدب شعرا ورواية؛ و»تبنته» مدارس وتيّارات مثل الطليعة والمستقبليّة والدادائيّة والبنيويّة والسرياليّة، ما أفضى بالفيلسوف الفرنسي جان مارك لاشو إلى أن يقترح عن حقّ، مصطلحا من نحته «الكولاجية»، أو «المُلصقيّة» بعبارتنا، خاصّة في نوع نصطلح عليه بـ»القصيدة المُحيّزة» التي تكاد تكون لوحة، حيث الكلماتُ الألوانُ تملأ النصّ وتغني استعاراته القائمة على نوع من «التثاني» يكوّنان محور دورانه، أي على عنصرين مختلفين متعارضين في الآن نفسه، حيث نقف في «مفرد بصيغة الجمع» على شكل مجدول أو جدولي، وزمن مقسّم مشظّى أشبه بـ»الكولاج» وأمثلة ذلك هذا التجاوب بين الشعري الفلسفي، حيث يزاوج أدونيس بين نصّ من «تيماوس» لأفلاطون، ونصّه هو:
يقول أفلاطون إنّ الآلهة ختمت على الروح بجسد فان؛ ثم صنعت في هذا الجسد روحا من نوع آخر هي النفس الفانية بغرائزها وشهواتها وأهوائها وميولها، ووضعت الرّوح في الرأس والنّفس في الصدر وفصلت بينهما ببرزخ الرقبة. ولأنّ الجزء من النفس الفانية أفضل من الآخر فقد سكنت الآلهة الأفضل بين العنق والعضلة، التي تفصل التجويف الصدري والبطن، قريبا من الرأس، حتى يتسنّى لها أن تسمع الحكمة وتكبح الشهوات والنوازع الجامحة المتمرّدة على العقل. أمّا القلب وهو مستودع الأوردة ومنبع الدم، فقائم كحارس خاصّ، أو رقيب ينقل إلى الأعضاء أوامر العقل وإيعازاته. وفوقه غرزت الآلهة الرئة مروحة تنعشه وتـهدّئ من دقـّاتّه.
ونصّ أدونيس:
«هكذا عرفت الأنثى نفسها، عرف الذكر
يجتمعان بشهوة اللحم والعظم لإيداع الماء في بيته
يندفع الماء ـ يكون له
سمع يمتلئ بتعويجات الصوت
أظافر تهدي إلى مواضع الحكّ
رئة مروحة لحرارة القلب
عظام كالأوتاد لجرّ الحركة
ورقة كبرج من الخرز
ليطول ذكر الحكمة»
في قصيدة «تكوين» يستخدم أدونيس «الكولاج» من أجل أن ينقل صورة الجسد الأفلاطونية من الفلسفة إلى الشعر. وقد يعدّ ذلك «تداخلا نصّيّا» عند البعض، أو «تراسلا» أو «تجاوبا» بين نصّين مختلفين. وقد نجد ميلا إلى قبول هذا الرأي، فـ«شعريّة الأثر» لا تخفى؛ لكنّ نصّ أفلاطون، وقد عدنا إلى الترجمة الفرنسيّة «شعريّ» في تشابيهه ومجازاته، ويكاد يكون شعرا بمعنى «مطلق الشعر»، أو بمعنى «الصنعة اللطيفة في نظم الكلام»، كما جاء في «إعجاز» الباقلاّني، ونفيه شبهة الشعر عن القرآن. وأدونيس يرى أنّ القول بضرورة الفصل بين الشعر والفكر، أو الفلسفة قول قديم، لم يعد من الممكن تسويغه اليوم، فالشعر «فلسفة من حيث أّنه محاولة اكتشاف، أو معرفة الجانب الآخر من العالم، أو الوجه الآخر من الأشياء، أي الجانب الميتافيزيقي كما نعبّر فلسفيا. كل شعر عظيم لا يمكن، من هذه الزاوية، وبهذا المعنى إلاّ أن يكون ميتافيزيقيا». ومثال هذا الكولاج قول أبي حامد الغزالي: «من بدائع ألطافه أن خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، وسلّط على الخلق شهوة اضطرّهم بها إلى الحراثة جبرا واستقى بها نسلهم إقهارا وقسرا خلق الزوجين وخلق الذكر والأنثيين (الخصيتان) وخلق النطفة في الفقار، وهيّأ لها الأنثيين عروقا ومجاري وخلق الرّحم قرارا ومستودعا للنّطفة، وسلّط متقاضى الشهوة على كلّ واحد من الذّكر والانثى».
ويعمد أدونيس إلى «الكولاج: «هكذا عرفت الأنثى نفسها، عرف الذكر، يجتمعان بشهوة اللحم والعظم لإيداع الماء في بيته. ويمكن أن نعالج «الكولاج» من منظور التأويل «اللّعبيّ» للشعر وللفنّ عامّة، حيث الكتابة قراءة، بل «تراسل» و»تجاوب». ومثالها في «مفرد بصيغة الجمع» هذا «الكولاج» الذي يجمع بين الشعر و»الطاوية» الصينيّ. والطاوية تأخذ بهذا الثالوث «الطريق والنّهج والقول» شأنها شأن «العرفان» (الصوفي القائم على الشّريعة (النصّ الظاهر للوحي) والطريقة (السبيل الصوفي) والحقيقة (الحقيقة الروحانية التي تتجلّى في ما يسمّى بالشطح الصوفي). وهذا موضوع آخر.
كاتب تونسي
******
أسس مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأسس شقيقه يوسف، في ما بعد، مركز التخطيط. وعلى يدي شقيقه أنيس صار مركز الأبحاث منارة علمية عربية وضاءة. وكان شقيقه أنيس يفتش، في تلك الفترة، عن طريقة لتحويل فكرة «الموسوعة الفلسطينية» من حلم في رأسه إلى واقع متجسد. وعندما أراد فايز مغادرة بيروت إلى الولايات المتحدة اصطحب شقيقه أنيس إلى بلده كيفون في صيف 1966 للاجتماع إلى أحمد الشقيري ومناقشة فكرة إصدار الموسوعة. وفي ذلك الاجتماع قدم فايز استقالته إلى الشقيري بصورة مفاجئة. وعند ذلك التفت الشقيري إلى أنيس صايغ وقال له: إذاً، تسلم إدارة مركز الأبحاث، وباشر في إعداد الموسوعة.
في احدى المرات في سنة 1971، كان فايز ويوسف وأنيس مسافرين على طائرة واحدة من بيروت إلى القاهرة. وجلسوا معاً في مقهى المطار بانتظار موعد الإقلاع، وراحوا يتجادلون في محتوى العدد الأول من «شؤون فلسطينية» وفي شكله معاً. وتشعب جدالهم وطال نقاشهم حتى أقلعت الطائرة وهم ما زالوا يتحدثون… هكذا كانت أحوال ابناء القسيس عبد الله صايغ: مجادلات لا تنتهي وانجازات باهرة. وكل واحد منهم قيدوم في مجاله. لكن العمر لم يمهل فايز طويلاً، فمات في المنفى في الثامنة والخمسين، تماماً مثلما لم يمهل توفيق طويلاً فمات هو أيضاً في المنفى في الثامنة والأربعين.
***&&&***
المصادر:
– صحيفة القدس
• – القاهرة: «الشرق الأوسط»
– موقع سبق
– الرياض – العربية نت
– صحيفة: البيان الإلكترونية
– الشرق الاوسط
— اليوم السابع
– بي بي سي .كوم BBC.com
– دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN العربية)
– موقع هيبا: www.hipa.ae
– الجزيرة ،نت.
– الجريدة www.aljarida.com
– https://p.dw.com الألمانية –
_ موقع أبراج نيوز
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
مسقط – العمانية
– اليوم السابع – موقع: وضاح فوتو
الموقع الإلكتروني : victory-Jo.com
– مراسي – الزهراء
صفحة الفيس Kerolos M Takla
– صحيفة سبق الإلكترونية- وكتلة سرمد
– النهار – الجريدة – «عكاظ»
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مواقع إلكترونية: المجلة- القدس العبي
الجزيرة+ العربية نيوز – فرانس24/ أ ف ب
– اخبار فن التصوير- rafik kehali
– الوسط – الألمانية
– جائزة هيبا – الإمارات اليوم – القدس العربي
– موقع المستقبل – موقع سينماتوغراف
– مجلة فن التصوير الإلكترونية.
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
********


