المصور الأميركي جون بارنيه John Barnies .مواليد عام (1827م ــ 1900م)، أول مصور ضوئي محترف” عرفته القدس (1-2)-هاني حوراني.

مندل دينيس: “أول مصور فوتوغرافي محترف” عرفته القدس (1-2)

 هاني حوراني

مندل دينيس يتوسط عائلته في صورة التُقطت عام 1885

في عام 1989، عثر المصور الفوتوغرافي الأميركي جون بارنيه/ John Barnies في مزاد أحد الكراجات/ Garage Sale، التي تباع فيها عادة الأغراض المستعملة، على ثمانية صناديق خشبية تحتوي على 134 صورة سليبة زجاجية، إضافة إلى ثمانين صورة مطبوعة، وأخرى تحتوي على صور مزدوجة/ Stereoscopic Images، ودفاتر ملاحظات، ومواد فوتوغرافية أخرى. كانت تلك المسودات الزجاجية والصور تعود إلى أحد رواد التصوير الفوتوغرافي في مدينة القدس، وهو مندل دينيس/ M. J. Diness (1827 ــ 1900)، مما وضع هذا المصور تحت الضوء ثانية باعتباره “أول مصور فوتوغرافي محترف عرفته القدس” في القرن التاسع عشر(1).
بعد أشهر قليلة، اكتشف المصور جون بارنيه أن ما وقع عليه من صور زجاجية، في مزاد الكراج في ضاحية سانت بول، بولاية مينسوتا، والمركونة في ركن مهمل من الكراج، تتضمن صورًا لمدينة القدس، ولأحياء وبلدات وأماكن أخرى من فلسطين. وللتعرف أكثر على طبيعة الصور المكتشفة لجأ جون بارنيه إلى متحف جامعة هارفرد للساميات/ Harvard Semitle Museum، الذي يضم مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية المبكرة لفلسطين والشرق الأوسط عامة. وبمساعدة أمينة أرشيف الصور في المتحف المذكور، ماري إيلين تيلور/Mary Ellen Taylor جرى التخمين بأن الصور المكتشفة، والتي تحمل الأحرف الأولى لصاحبها (MJD)، ربما تعود إلى مندل جون دينيس(2).

الصناديق الخشبية التي احتوت صور مندل دينيس الزجاجية والتي اكتشفها جون بارنيه


كانت تصاوير مندل دينيس لمدينة القدس بالكاد معروفة، وكان اسمه شبه مجهول قبل عثور جون بارنيه على صناديق النسخ الزجاجية السالبة لصوره في عام 1989، حيث أن دينيس كان قد عرف من خلال بعض صوره المنشورة في كتاب “استكشاف القدس” لأرميتي بيروتي/ Ermete Pierotti، المنشور في لندن عام 1864.

غلاف كتالوغ معرض مندل دينيس الذي نظم من قبل The Dorot Foundation عام 1991


بل إن نيسان ن. بيريز/ Nissan N.perez، صاحب كتاب “التركيز على الشرق، التصوير الفوتوغرافي المبكر في الشرق الأدنى/Focus Easts Early, Photography in the Near East (1839-1885)“، الصادر عام 1988 (أي قبل عام واحد من اكتشاف بارنيه لمسودات م. دينيس) كتب يقول: “… باستثناء ألبوم في مجموعة متحف إسرائيل، اختفت جميع صور دينيس وسلبياتها، ولا يوجد ما يشير إلى مدى اتساع نطاق عمله. ومع ذلك، فإن جودة الصور الموجودة، وكذلك المطبوعات الحجرية في ألبوم بيروتي، تشهد على حساسيته واشتغاله الدقيق على صوره”(3).
فمن هو مندل دينيس، الذي وصف باعتباره “أول مصور فوتوغرافي محترف” في مدينة القدس، رغم تواجد مصورين فوتوغرافيين آخرين في المدينة قبل ممارسته للتصوير الفوتوغرافي فيها؟ ولماذا غادرها في عام 1860 إلى الولايات المتحدة مع أعماله، من دون أن يلفت الأنظار إليه في حينها؟ وما هي أهمية صوره السالبة التي اكتشفت في نهاية ثمانينيات القرن العشرين عن القدس وفلسطين، والتي لم تلبث أن عرضت في أماكن عدة من الولايات المتحدة والعالم، ومنها العاصمة الأردنية عمان؟!(4)


سيرة مضطربة
ارتبطت سيرة مندل دينيس بعدد من الأحداث والمواقف التي أضفت على حياته سلسلة من الاضطرابات، لعل أبرزها تحوله عن اليهودية إلى المسيحية بعد انتقاله إلى القدس، والذي أثار كثيرًا من الجدل والخلافات مع أبويه وزوجته وعائلتها اليهودية المتدينة(5).
ولد دينيس عام 1872 لأسرة يهودية أوكرانية. ومع أن المعتقد أن مكان ولادته هو مدينة أوديسة على البحر الأسود، إلا أن دينيس نفسه يدعي في رواية متأخرة عن سيرته أنه ولد في كورنال/ Cornwall، في إنكلترا، وأن والده نقله وعائلته، حين كان في سن الثالثة من عمره، إلى أوديسة، حيث ترعرع هناك. وعندما بلغ سن السابعة عشرة أرسله والده للدراسة في هايدلبرغ في ألمانيا لتعلم مهنة صناعة الساعات. وللتغلب على لوثة “العقلانية الألمانية” التي أصابته هناك، أرسل إلى مدرسة حاخامية في القدس، حيث التقى بعد عامين بمبشر إنكليزي، ووقع تحت تأثيره، واعتنق المسيحية على يده، مما أثار غضب عائلته في أوديسة ومعلميه في القدس. وكان تأثير تحوله عن اليهودية على أسرته فاجعًا، من ذلك تأثيره على الجهاز العصبي لوالده، كما ماتت أخته الصغرى حزنًا بسبب ذلك(6).
منذ وصوله إلى القدس، عمل دينيس ساعاتيًا/ Watchmaker، وهناك انجذب إلى مهنة التصوير الفوتوغرافي. كان ذلك في وقت تحوّلت فيه القدس إلى محط أنظار الأوروبيين الذين قصدوها للحج، أو الإقامة، خاصة وأن السلطات العثمانية واصلت منح الدول الأوروبية الكبرى الامتيازات التي سبق لحاكم مصر أن منحها لها، ولرعاياها، إبان احتلاله لبلاد الشام، ومنها فلسطين في السنوات (1831 ــ 1840)(7).
أدت عملية الانفتاح الواسعة التي أقدمت عليها الدولة العثمانية تجاه القوى الأوروبية إلى تنافس هذه القوى على بناء قواعد نفوذ لها في فلسطين، وقد زاد هذا التزاحم الأوروبي مع تحسن وسائل الاتصال، مثل انتشار خدمات البريد المنتظمة، ونشوء خطوط بحرية دائمة ما بين الموانىء الأوروبية وموانىء بلاد الشام وجنوب البحر المتوسط. كما أدى ازدياد أعداد الحجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة إلى توسع عملية بناء الفنادق الحديثة في القدس، ونشوء الصناعات السياحية، ورواج التصوير الفوتوغرافي، الذي تحول من ممارسة نخبوية حتى أواسط القرن التاسع عشر، إلى “موضة عالمية”(8).
في شباط/ فبراير 1851، تعرف د. جيمس ت باركلاي/ Dr. James T. Barday (1804 ــ 1875)، وهو طبيب ومبشر أرسله المجمع التبشيري المسيحي الأميركي إلى القدس، على الشاب مندل دينيس، الذي كان قد اعتنق المسيحية على يد الأنجليكان، وكان حينها يعمل ساعاتيًا. وقد أعاد باركلاي تعميد دينيس وضمه إلى حركة ستون كامبيل الدينية، كما أجرى مراسم زواجه الثاني. وقد أدت علاقة دينيس مع باركلاي، عضو الكنيسة المعمدانية الألفية، إلى خسارة دعم الأسقفية الأنجليكانية، والتي كانت ترفده ماليًا، وتوفر له السكن(9).

جيمس فن قنصل بريطانيا في القدس

أليزابيث زوجة جيمس فن قنصل بريطانيا في القدس


جيمس غراهام في القدس
لكن التطور الأهم في حياة مندل دينيس، أثناء إقامته في القدس، هو تعرفه على جيمس غراهام/ James Graham (1806 ــ 1869)، سكرتير جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود، الذي وصل إلى القدس في أيلول / سبتمبر 1853، ومكث فيها لمدة عامين ونصف العام. كان غراهام، فضلًا عن صفته كمبشر وموظف في الجمعية المذكورة، قد تعلم أساسيات التصوير الفوتوغرافي قبل مجيئه إلى القدس، ومن ثم مارس التصوير في المدينة المقدسة، واتخذ له في أحد الأبراج على جبل الزيتون، استوديو لأعماله كمصور(10). وقد طلبت زوجة القنصل الإنكليزي في القدس، إليزابيث آن فن/ Ellzabeth Anne Finn، من غراهام تعليم دينيس التصوير الفوتوغرافي، حيث قام الأخير بتدريبه على مبادئ التصوير، ومن ثم عملا معًا طيلة مدة تواجد غراهام في القدس على تصوير المواقع الدينية وما حولها. وهكذا دخل دينيس عالم التصوير الفوتوغرافي الاحترافي(11).

جيمس غراهام من أوائل مصوري القدس


ويذكر هنا أن جيمس غراهام ظل ينظر إليه باعتباره الممثل الرئيسي للتصوير الفوتوغرافي في القدس، برغم أن ممارسته للتصوير كان عملًا جانبيًا، إلى جانب ممارسته لرسالته التبشيرية. وقد تتوج نشاطه التصويري بإقامة معرض خاص لصوره الفوتوغرافية في قصر الكريستال بلندن، كما صدر له كتاب بعنوان “القدس… بعثاتها ومدارسها” عام 1858(12).

(يتبع)

* باحث وفنان بصري.

هوامش:
(1) Carney Gavin The Discovers in: Capturing the Holyland, M.J. Diness and the Begining of the photography in Jerusalem. Harvard College, 1991. P.3.
وكان أول من أطلق على مندل دينيس صفة “أول مصور فوتوغرافي محترف” في القدس هي أليزابيث آن فن، زوجة قنصل بريطانيا في القدس جيمس فن. ولعل هذا الوصف يعود إلى أن مندل دينيس كان يعيش بالاعتماد على دخله من بيع صوره، بينما لم يكن المصورون الذين مروا بالقدس من قبله متفرغين للتصوير، بل كانوا يعيشون اعتمادًا على مهن ووظائف أخرى يشغلونها.
(2) Carney Gavin. P.3.. في المصدر السابق. نيسان بيريز مؤلف الكتاب المذكور كان يشغل وظيفة امين قسم التصوير الفوتوغرافي في متحف إسرائيل.
(3) المصدر نفسه ــ ص 5.
(4) طاف معرض أعمال مندل دينيس عن القدس في أماكن مختلفة من الولايات المتحدة والعالم (1993)، ومَرَّ المعرض بالعاصمة الأردنية، عمان، حيث أقيم في المركز الثقافي الأميركي. ومنه اقتنى كاتب هذه السطور كتالوج المعرض (انظر الصورة في متن المقالة)، والذي حمل عنوان: “التقاط الأرضي المقدسة م. ج دينيس وبدايات التصوير في القدس”، تضمن مقالات عدة عن المصور، إضافة إلى نماذج من أعماله عن القدس، والجليل.
(5) في مطلع عام 1849، أعرب مندل دينيس الشاب الذي كان قد وصل للتو إلى القدس من أوديسة عن رغبته في اعتناق المسيحية، وكانت لديه آمال قوية بأن تتبعه زوجته في التحول نحو المسيحية. لكن ما إن علم اليهود الأشكناز الغاضبين بهذا التحول، حتى حاصروا المنزل الذي يقيم فيه، في أوائل نيسان/ ابريل 1849، مطالبين بفصل زوجته وابنه الرضيع عن دينيس، قاد هذا التحرك الغاضب والد زوجته اليهودي المتعصب. بل إن تحول دينيس عن اليهودية تطور إلى نزاع دبلوماسي ما بين قناصل الدول الأوروبية الكبرى: إنكلترا وروسيا والنمسا، حيث طلب دينيس حماية المبشرين الإنكليز، الذين كانوا ينشطون في رعاية اليهود المتحولين دينيًا إلى المسيحية. وفي المقابل، وفر قنصلا روسيا والنمسا في القدس الحماية لليهود الذين يتبعون للدولتين المذكورتين.
أنظر مقالة درير واهرمان Drer Wahrman: “في تطور البيئة التصويرية: مندل جون دينيس وبدايات التصوير الفوتوغرافي في القدس” المصدر السابق، ص 10 ــ 11.
(6) انظر مقالة نتزا روزوفسلي/ Nitza Rosovsky، “عالم جديد، حياة جديدة واسم جديد” في المصدر نفسه، ص 45.
(7) كان حاكم مصر السلطان محمد علي باشا قد منح قناصل الدول الأوروبية ورعاياها في فلسطين، في عام 1834، عددًا من التسهيلات والإعفاءات الضريبية، حيث أبطل ما سُمي بالكفارة، وهي ضريبة مالية كانت تفرض على كل حاج مسيحي، أو زائر أجنبي، يأتي إلى الأماكن المقدسة، وكانت تجبى عند دخول هؤلاء إلى كنيسة القيامة في القدس.
كما أعلن في منشور آخر عن إعفاء الرهبان والزوار المسيحيين من الرسوم، وأتاح للتجار الأجانب البيع والشراء داخل البلاد، وساوى ما بين المسلمين والنصارى واليهود. وقد حافظت السلطات العثمانية، بعد استعادتها السيطرة على فلسطين وبلاد الشام، على تلك الامتيازات الممنوحة للرعايا الأوروبيين.
(8) أنظر درير واهرمان، مصدر سابق، ص 9.
(9) أنظر Mandel Diness, in Discples Historey.org.
(10) كان د. جيمس ت. باركلاي قد مارس التصوير الفوتوغرافي قبل مجيء جيمس غراهام، وكان يحتل البرج ذاته الذي شغله غراهام من بعده. أما جيمس غراهام فقد كان مصرفيًا، عمل مديرًا لبنك غلاسكو قبل أن يأتي إلى القدس بصفته سكرتيرًا لجمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود.
(11) درير واهرمان. المصدر نفسه ــ  ص 17.
(12) المصدر نفسه. ص 18.

أخر المقالات

منكم وإليكم