من مهرجان برلين السينمائي، تحليل لفيلم “صوت السقوط/ sound of falling” للمخرجة الألمانية ماشا شيلينسكي

“صوت السقوط”: الجمال لا ينقذ العالم
 سمير رمان 
اختطف مهرجان كان السينمائي فيلم “صوت السقوط/ sound of falling” للمخرجة الألمانية ماشا شيلينسكي من مهرجان برلين السينمائي، فحصل على جائزة التحكيم، ورِشّح لنيل جائزة الأوسكار، كأحد أهمّ أفلام السينما للعام الحالي.الفيلم، وهو الروائي الثاني للمخرجة، تقدم فيه شيلينسكي واقعية شعرية وسردًا طيفيًا، لتدخل في منافسة قوية مع إنغمار برغمان في فيلمه “فاني وألكسندر”، وأندريه تاركوفسكي في فيلمه “المرآة”، ومايكل هاينكي في فيلمه “الشريط الأبيض”، وبيرناردو بيرتولوتشي في فيلمه “القرن العشرون”، وإلى حدٍّ ما المخرج تيرينس ماليك في فيلمه “شجرة الحياة”. وعلى الرغم من أوجه التشابه الواضحة، فإنّ فيلم “صوت السقوط” لا يبدو تقليدًا لأيّ من هذه الأفلام، كما أنّه لا يثير الجدل. تخلق شيلينسكي عالمًا وهميًّا، ولكنّه عالم آسر، مستوحى من رؤيتها الخاصّة للتاريخ والثقافة الإقليمية وللعلاقات الإنسانية. ومع ذلك، هنالك أوجه شبهٍ مع الفيلم الكلاسيكي لا تزال قائمة.بدأ كلّ شيء عندما أمضت ماشا شيلينسكي، ولويز بينتر، اللتان شاركتا في كتابة السيناريو، صيفًا في ألتمارك بولاية (سكسونيا أنهالت الشمالية)، الواقعة في حوض نهر ألبه في شمالي ألمانيا. هناك عثرتا في مزرعة مهجورة على صورة فوتوغرافية تعود إلى عام 1920، وتظهر في الصورة ثلاث نساءٍ يحدقن مباشرة في الكاميرا، وينظرن إلينا من الماضي البعيد. من هنا كانت نقطة انطلاق الفكرة. يتتبع الفيلم، على مدى أكثر من قرنٍ، المسارات المتشابكة لأربع فتيات صغيرات سبق أن عشن في أوقاتٍ مختلفة في مزرعة معزولة عن العالم.يبدأ الفيلم في السنوات الأولى من القرن العشرين، مع ألما: فتاة صغيرة فضولية تراقب بصمتٍ الحياة اليومية لعائلتها، لتكتشف عالمًا يتّسم بالإيمان والعنف والموت المبكر. وتستمر القصة مع إيركا، وأنجليكا، ثم لينكا، حيث تعيش كلّ واحدة منهنّ في هذه المزرعة، ولكن في عصرٍ مختلف، من الخمسينيات إلى اليوم، من دون أيّ ترتيبٍ زمني. تنتقل القصة بحرية بين هذه الحيوات، فتنسج شبكة من التناغمات البصرية والصوتية والعاطفية.أحداث كثيرة جرت في هذه العائلة الكبيرة، فيها مساحة للضحك واللعب، ولكنّ كلّ شيء يجري بينما تخيم عليه زخارف قاتمة: ثقل الصمت، وعنف النظام الأبويّ، وعزلة المرأة، والافتتان بالموت لدرجة عبادته. هذه كلها كانت حاضرة في الفيلم باستمرار، من خلال تصوير الجثث بعد الوفاة. يُبعث الموتى ويصوّرون كما لو كانوا أحياءً. في هذه الأجواء، وفي جلسة تصويرٍ عائلية، تجد ألما نفسها مجبرةً على انتحال شخصية أُختها المتوفاة، وهي شخصية كانت تشبهها بشكلٍ لافت.
“كُتب كثير عن المنظور الأنثوي لهذا الفيلم: فيلمٌ حميميّ، تأمليّ، معارضٌ لـ”النظرة الذكورية” المهيمنة والحاسمة. ربما يكون هذا صحيحًا بشكلٍ عام، ولكنه جاء، لحسن الحظّ، من دون الخوض في الكليشيهات حول المسائل النفسية المتوارثة، وحول سوء المعاملة”
على مدار ساعتين ونصف الساعة، تتكشف على الشاشة قصص خيالية جرت على مدى قرابة قرن داخل هذا المنزل وحوله. يتطلب فهم تكوين الشخصيات وحلّ الألغاز جهدًا كبيرًا من المشاهد، ولكنّه جهدٌ يستحق العناء بالفعل. هنا، عاشت عائلة فلاحية توارثت المزرعة وخدمها، الذين يواصلون حياتهم مع مالكي المزرعة الجدد وكأنّهم “أشباح تاريخيون”. تتكشف أمام المشاهد مقاطع من حياة النساء: إلى جانب الفتاة الصغيرة ألما، وهانك، وإيريكا، وأنجليكا، ولينكا، هنالك أيضًا بيرتا، وترودي، وليا، وفريدا، وكريستا، وكايا، ونيللي…. وهنالك أيضًا مساحة للرجال، ومساحة لتصوير حياة الزهد. لكن التركيز يبقى منصبًّا على الفتيات، والشابّات، والنساء: تجاربهنّ الحميمية الأولى، ورغباتهنّ المكبوتة، ومخاوفهنّ، والصدمات التي تعرضن لها. هنالك عنف منزلي مستتر، وممارسة طقوسٍ غريبة تقترب من محاكم التفتيش.يمكن تقسيم الفيلم، وإن لم يكن بحسب الترتيب زمنيًّا، إلى أربع قصص قصيرة، وأربعة “أزمنة متوقفة”: عشرينيات وأربعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وأخيرًا الوقت الحاضر. يتميّز كلّ زمنٍ بوقوع حدثٍ تاريخيّ جلل وجد أبطال الفيلم أنفسهم فيه. على سبيل المثال،َ فريتز، أحد أبناء عائلة المزرعة، الذي فقد ساقه، فعمل أقاربه على إنقاذه من مصير سجينٍ حُكِم عليه بالإعدام في الحرب العالمية الأولى. ونتيجة للحرب العالمية الثانية، تصبح المزرعة النائية الواقعة على ضفاف نهر إلبه جزءًا من الخط الذي يرسم حدود ألمانيا المقسّمة. أمّا إريكا وأنجليكا فقد غادرتا المزرعة عبر النهر. يتضمّن الفيلم بنية فنيّة مختلفة ومتقنة، يعود الفضل في جزء كبير منها إلى المصوّر السينمائي فابيان غامبر، وإلى فريق الصوت الذي أغنى الفيلم بموسيقى تصويرية آسرة.كان أحد مواضيع الفيلم: إيقاظ الحياة الجسدية، واللقاءات الأولى مع الموت والعرق والدم، واللقطات الجماعية المزعجة، والتي التُقطت بكاميرا بولارويد، التي كانت تمثّل قمّة التقدّم التكنولوجي في ثمانينيات القرن الماضي.إضافةً إلى ذلك، جاءت اللقطات المقربة للأقدام المتسخة المتشققة والمجروحة، لتضفي على الفيلم لمسةً فريدة، وكذلك الذباب المنتشر في كلّ مكان، ويرافق أبطال الفيلم في كلّ خطوة. الأهمية الأكبر في الفيلم يكتسبها رمز نهر الزمن الفلسفي، وكذلك الشمس التي تظهر حتى في عنوان الفيلم بالألمانية “أنظر إلى الشمس”. وأخيرًا، تأثيرات الخداع البصري، التي يرى المشاهد بفضلها الحدث غالبًا من خلال الأبواب والنوافذ، ومن خلال ثقوب المفاتيح، وحتى من خلال السيقان المقلوبة رأسًا على عقب، عندما تقف إحدى البطلات على رأسها محدّقةً في عالمٍ مقلوب أيضًا.كُتب كثير عن المنظور الأنثوي لهذا الفيلم: فيلمٌ حميميّ، تأمليّ، معارضٌ لـ”النظرة الذكورية” المهيمنة والحاسمة. ربما يكون هذا صحيحًا بشكلٍ عام، ولكنه جاء، لحسن الحظّ، من دون الخوض في الكليشيهات حول المسائل النفسية المتوارثة، وحول سوء المعاملة. حتى أنّ ماشا شيلينسكي تتبع في فيلمها الخطّ الذي سبق ورسمه قبل سنوات عديدة المخرج بيتر وير في فيلمه الغامض “نزهة في هانغن روك”، وكذلك المخرجة صوفيا كوبولا في فيلمها “انتحار العذارى”.تختفي بطلات فيلم “صوت السقوط”، ويغادرن الحياة، بل ويحلقن في السماوات طوعًا، أو بضغط من المجتمع، بصورة غامضة مترافقة بقليلٍ من الرعب وإجراءات التحقيق الجنائي.إنّ انعكاس اللعنات التاريخية وعيوب الطبيعة البشرية لا تحول الفيلم إلى مشهدٍ كئيب. هذه الخلفية متوازنة بفضل ألوان رامبرانت الدافئة والعميقة التي طغت على التصاميم الداخلية، وكذلك بفضل الحقول الذهبية، وشعر النساء، وبفضل الدفء الحسيّ الذي استطاعت الممثلات من مختلف الأجيال إضفاءه على بطلاتهنّ.يقودنا هذا الفيلم إلى مقولةٍ تبدو صحيحة: الجمال لا ينقذ العالم، ولكنّه يجعل إقامتنا الموقتة فيه ممكنة.
ضفة ثالثة
مجلة ايلت فوتو ارت

أخر المقالات

منكم وإليكم