للمخرج السينمائي: كريم الشنّاوي. الفيلم المصري “ضَيْ”. سيمفونيةُ اللمسةِ الإنسانيةِ الحادِبة-مشاركة: سمر محفوض
الفيلم المصري “ضَيْ”: سيمفونيةُ اللمسةِ الإنسانيةِ الحادِبة
محمد جميل خضر
بكثيرٍ من الوجدانيّات، وبلمساتٍ سينمائيةٍ لافتة، يقدّم الفيلم المصري “ضَيْ/ سيرةُ أهلِ الضي” (2025) من إخراج كريم الشنّاوي نفسَه. تغيب روح السينما بمعناها ومبناها في كثير من الأفلام المصرية، ثم سرعان ما تنتفض غيرةُ مخرج، أو منتج، أو كاتب نصوص، على الفن السابع الذي وصل في مصر من خلال كثير من التجليات، مستويات لافتة ظلت تعاود اللمعان بين الفينة والأخرى، فإذا ببعض هذه الروح تعود من خلال شريط مختلف، يراعي قيمة الضوء في السينما، يقدّر دور الموسيقى، يجوب آفاقَ قيمٍ وموضوعاتٍ وازنةً ذات قيمةٍ ودَلالات.في “ضي” يتبدّى منذ مشاهده الأولى أن الموضوع الذي سيكون قيد التناول خلال سيرورة الفيلم، هو لفت النظر للأشخاص المتميزين بتنوّعٍ إنسانيٍّ خاصٍّ بجينٍ وراثيٍّ يجعل بشراتهم وشعر رؤوسهم وحواجبهم ورموشهم وكل مطرح شعر في أجسادهم بلون أبيض فاقع يصعب تجاوز تأثيره على الرائين والمتعاملين مع هؤلاء الناس الذين جرت عادة التداول أن يُطلق عليهم اسم (ألبينو؛ رجل ألبينو، طفل ألبينو، امرأة ألبينو… وهلمّ جرًّا).أما لماذا ألبينو، فلأن الاسم يتعلق بحالةٍ وراثيةٍ تحمل علميًّا اسم “المَهَق” Albinism، وأحيانًا يجري منح الحالة باللغة العربية اسم “الأمهق”، ولا أدري إن كان اسم (برص) يناسب الحالة، أو يتعلّق بها؟ وهو عبارة عن حالة وراثية، كما أسلفتُ، تتسبب بنقص كمية صبغة الميلانين في الجلد والشعر والعينين، وتؤثر على الإنسان بغض النظر عن عِرقه.فتى نوبيٌّ اسمه ضي (أدّى الوجه الجديد المشع بالضياء بدر محمد دوره باقتدار)، يملك صوتًا مميزًا وبشرة مميزة كذلك، ويحلم، فمن حق كل إنسان أن يحلم، وتحلم معه معلمته ومدربته على صعيد الغناء وضبط إيقاع الروح المتعبة من تنمّر أترابه وأبناء مدرسته عليه بسبب لون بشرته. أما وجهة الحلم فهي المشاركة في مسابقة غناء تتنافس خلالها أصوات المشاركين على نيل قبول لجنة التحكيم لتتيح لهم المرور نحو المرحلة التالية وصولًا إلى نيل لقب أفضل صوت. في التفاصيل فإن أم الفتى تخشى عليه من ضي الشمس، ومن قسوة الواقع المحيط، وتحمل وحدها ومعها ابنتها ليل (أدّت دورها برشاقة الممثلة الواعدة حنين سعيد) شقيقة ضي مسؤولية الحياة والأيام بعدما تركهم الوالد لمصيرهم منسحبًا من لجّة التعامل مع حالة ابنه الوحيد. بين ليل وضي تتشكّل ثنائية الأسرة التي تفتقد لأفضل أساليب التعامل مع حالة ابنها. تترافق المشهدية اللافتة للفيلم مع دراية مبدعة للمخرج مع حلول الإضاءة المصاحبة لتلك المشهدية، ومع رسم لوحات من مفردات المكان والناس الذين يشغلون فضاءاته، وتناوب الليل والنهار فيه. إضافةً إلى ما تقدّم، شكّلت الموسيقى عنصرًا أساسيًّا في شريط “ضي”، سواء الأغاني التي اختارها النص ومخرج النص للفتى من أغاني محمد منير بشكل أساسي، أو الموسيقى النوعية المصاحبة لمشاهد السيناريو خلال قطع الفيافي من النوبة نحو بر الصعيد وصولًا للعاصمة القاهرة، أو خلال وقوف الفتى أمام نيل بلاده الآتي من منابع النيل في أوغندا (ينبع النيل من بحيرة فيكتوريا عند مدينة جينجا في أوغندا) عبورًا من أثيوبيا ومن بعدها السودان وصولًا إلى لحظة تأمّل مشعة بالأسئلة: هل ينبغي أن تسير مسيرتي وسيرتي بما يفرضه عليّ لون بشرتي؟ لماذا أخشى الشمس (أحد أسماء من يتميزون بالألبينو هو عدوّ الشمس)؟ لماذا أتحاشى الغناء أمام الآخرين؟ أين أبي؟ هل تركنا بسببي؟ ناهيكم عن الأسئلة المتعلقة بقلق المستقبل وأفق التوقعات الممكنة في ظل حالته التي تشكّل عتبة التعامل معه، ولحظة الاستهلال التي يلحظها الفتى فور رؤية إحداهن، أو أحدهم له، من دون أن نقحم موضوع الحب والعاطفة والحاجات الإنسانية الطبيعية عند كل واحد من بني البشر؛ هل سيحظى ضي بقصة حب؟ هل ستحبه إحداهن؟ هل سيتجرأ ويحب إحداهن؟ هل سيتزوّج وينجب الأولاد؟
المخرج كريم الشناوي مع أسرة الفيلم
ماذا لو كانت هناك نسبة ما أن يأتي أحد أبنائه بلون بشرته وسمات حالته (يتميّز أبناء الألبينو، إضافة إلى بياض بشراتهم اللافت، بِقِصَرِ، أو طول النظر الشديد، وبالرأْرأة (ترجرج الحدقة الاضطراري، وهو شكل من حركات العين اللاإرادية، أو الإرادية في بعض الحالات النادرة)، وربما، أحيانًا، الحَوَل، والحساسية من الضوء، وفي بعض الحالات النادرة قد تصل الأعراض إلى الإصابة بنزيف نتيجة مشاكل في الصفائح الدموية، ومشاكل في الرئتين والأمعاء). أسئلة وجودية بامتياز، لكن اللافت أن الفيلم تجنّب الغرق بتفاصيل أعراض الألبينو والخوض بأسبابه وعلوم تشخيصه لصالح أنسنةِ اللحظةِ المتعينةِ التي أبطالها ضي بأشجانه وهواجس روحه وأمّه زينب (أدت دورها بإقناعٍ وجدانيٍّ آسِر الممثلة السودانية إسلام مبارك) المضطربة بين الشدّة واللين في سياق تعاملها مع حالة ابنها، وشقيقته ليل المسكونة بإحساس الإهمال رائيةً أن أمها منحت وتمنح جُلّ (بل كل) وقتها لضي وخصوصيات وجوده، ومعلمته صابرين (أدّت دورها بإتقان الممثلة والمغنية السعودية أسيل عمران) التي ترى أن أنجع سبل التعامل مع حالة ضي هي دفعه للتقدم نحو الأمام من دون تردد، أو رضوخ لآفة التنمّر وتداعياتها، ورائيةً، بدورها، أن صوت ضي يشكّل فرصة حقيقية بالنسبة له لتجاوز معيقات حالته، ولفرض وجوده واسمه ومعناه.
وجوه الفيلم وبطلاته الثلاث: أم ضي وشقيقته ومعلمته
مع خرير النيل وانعكاس ضوء القمر فوق صفحته الممتدة منذ آلاف السنين، ومع مرافقة أخّاذة لصوت مغنٍ ينشد أغنية باللغة النوبية كما لو أنه يصعد بتراتيلٍ صوفيةٍ معبّأةٍ باللواجعِ والصَّبَوات والآهات، ثم بأطفال النوبة يسرقون بيضة الديك ويركضون في أزقّة حاراتهم نحو بيت ضي يريدون أن يرجموه عبر النافذة بالبيضة التي يشبه لونها لون بشرته، مع كل هذا وذاك يستهل كريم الشنّاوي شريطه هذا (أحد شريطيه لعام 2025، إلى جانب “السادة الأفاضل”)، محدثًا نقلة بصرية ودلالية تجعل المتلقي يرفع أفق توقعه منذ هذا الاستهلال المغاير في ظل تغوّل الركاكة التي باتت تطعن السينما المصرية في مقتل، أو تكاد.ثم تتوالى الأحداث والمشاهد فإذا بأفق التوقع الذي تحضّر للارتقاء لا يصاب بالخذلان، بل يواصل هذا الارتقاء مع توضّح الدلالة من مشهد إلى آخر، ومع مواصلة الإصرار على لغة السينما كما جاء بها الأوّلون رواد هذا الفن الساحر؛ من الانتباه لأدق تفاصيل الكوادر، إلى التنوّع المدروس بين المشاهد القريبة والبعيدة والمتوسطة (كلوز أو زوم إن، زوم آوت وميديوم)، إلى إبقاء الحوارات في إطارها الوظيفيّ من دون إهمال بعض البلاغة وقوة النثر داخل حروفها (من الحوارات المهمة في الفيلم ما باح به ضي في واحد من المشاهد عندما شكى حرمانه من أن يمسك سنّه المخلوع ويرميه نحو الشمس كما يفعل الأطفال الآخرون… أو مثلًا عندما اقترحت عليه معلمته صابرين أن تصوّره وهو يغني قائلًا لها: ’بلاش… الناس لما بتبصّلي بحس إني أنا صعبان عليهم ومبعرفش أغني… يمكن إنت عشان ما تعمليش كده بعرف أغني قدامك… ويمكن لو قبلوني مش أعرف أغني قدام لجنة التحكيم في التلفزيون’… لتجيبه معلمته: ’لو قبلوك اللجنة مش حاتشوفك… حايبقوا دايرينلك ضهرهم زي ما بيعملوا مع باقي المتقدمين’… ثم تقنعه أن تسجل له صوتيًّا فقط، فإذا به يشرع بالغناء: ’دول عايروني وقالولي يا أسمر اللون يا لالالّي… صحيح أنا أسمر وكل البيض يحبونى يا لالالّي… يا عود قرنفل ما بين الفل حطّونى يا لالالّي’… إلى كثير من التجليات التي لم يبخل بها الفيلم إنتاجًا وإخراجًا وكتابةً وتمثيلًا).
ضي يناظر الأفق والشمس
الكمنجات والوتريات والإيقاعات (الأفريقية على وجه الخصوص) أبدعت في شكل مداخلاتها ما بين المشاهد وفي دلالات هذه المداخلات. جغرافيا المكان وعمارته أسهمتا في تعميق رسائل العمل الذي اختار بعدًا إنسانيًّا ثم راح يرصّع هذا الخيار بما يسنده ويوطّد علاقته بالمكان على امتداد الزمان. في واحد من حوارات الفيلم وقد كان ضي يساهر القمر في تمام بدره، جاءته أمه زينب حيث يجلس وقالت له: (الظلمة ما بتعرفش تخبيك يا ضي وجهك زي القمر بيوزّع ضي)، وكانت تسعى في تغزّلها هذا به لاعتماد منهجية (دقّة عالحافر ودقّة عالمسمار) بعد أن أعلنت رفضها لمشاركته في برنامج المسابقات الغنائي، فأجابها ضي: (شوفي بقى لو شوية نور كتير جوم عليّ من بتوع الأستوديو حيحصل إيه… واللا إنت ما بتحبيش إلا الليل/ العتمة اللي من غير قمر). أحزنها جوابه الذي جاء على هيئة سؤال، وأدخلها في دوامة حيرة وأسى حول الأولاد والبنات والحب والفقد والوحدة وهروب الزوج وتقلّبات الأيام.
ضيوف الشرفضيوف شرف الفيلم شكّلوا بمجموعهم، من الفنانين والمطربين النجوم، إضافة نوعية في طبيعة مشاركتهم، وعمق إيمانهم برسائل الشريط وتبنّيهم لها؛ مشاركة (الكنغ) محمد منير وحدبه على ضي ودعمه له ولصوته النوبي الشجيّ، مشاركة أحمد حلمي بدور رجل المطافي المصاب بحروق في وجهه نتيجة إنقاذه أسرة كاملة من حريق ما، وكيف قرر بعد مقابلته لضي وسماعه لصوته أن يخلع القناع الذي كان يخفي حروق وجهه… مشاركة محمد ممدوح اللافتة خفيفة الظل… مشاركة حنان سليمان بدور أم صابرين الحريصة على زواجٍ كنسيٍّ مهيب ومضمون لابنتها… مشاركة أمينة خليل القصيرة ولكن المقنعة… مشاركة محمود السراج الأصيلة المتقنة… مشاركة محمد شاهين النديّة أيضًا… مشاركة عارفة عبد الرسول اللافتة بدور صعيدية مكافحة تعمل كل ساعات النهار وتبحث، بعد ذلك، عن أي مسرّة ممكنة… مشاركة أحمد عبد الحميد زميل أحمد حلمي رجل المطافي… وصولًا إلى مشاركة صبري فواز بدور الحاج التاجر الذي يلين أمام خصوصية ضي وتبوح عبراته بتأثره حين يُختتم الفيلم بصوت ضي يغني (كما تمنّت أمه) باللغة النوبية.لحالة الألبينو كان في الفيلم نصيب… للنوبة ومناطيدها وخصوصيتها وفضاءاتها وشمسها التي لا تغيب… للأصوات كل الأصوات من أصوات الآلات وصولًا إلى أصوات الحياة… لحرارة اللهجات… للغة العيون… لآثار أسوان وعموم الصعيد ونجعاته ومداه الأخضر المهيب… لعازف النايات يطيّر الشجن حتى آخر الساحات…