للرسام الإسباني ( دييغو بيلاثكيث ) .لوحة: استسلام بريدا. بالفنّ الحديث:كيف تصنع اللوحة التاريخ-أشرف الحساني.


الفنّ الحديث: كيف تصنع اللوحة التاريخ؟
أشرف الحساني
“استسلام بريدا” للرسام الإسباني دييغو بيلاثكيث، 1635
يحفل تاريخ الفن الغربي بالعديد من اللحظات التاريخية الهامّة التي استطاعت من خلالها اللوحة التشكيلية أنْ تُبلور أفقًا بصريًا مختلفًا، بحيث لم تعُد اللوحة المسندية مجرّد بذخ فني بالنسبة إلى الناس، حيث تتبدّى لهم كنوعٍ من السياحة الثقافية، بقدر ما أصبحت وسيلة ناجعة لتخييل التاريخ وإدانة مكر الواقع وجُرحه. لكنْ حين نتحدّث عن التأثير الذي يتركه العمل الفني في مسام المجتمع، فنحنُ نتحدّث عن الأعمال التشكيليّة الكبيرة التي اخترقت غلالة الواقع، حيث يعمل الفنّان من خلالها على أنْ يُقدّم نقدًا للديكتاتوريات القائمة بمختلف أنواع السلطات المبثوثة داخل الواقع، سواء أكانت من لدن الدولة أو ذات صلةٍ شديدة بالمجتمع نفسه. ما يعني أنّنا أمام فنّ رغم ما نّدعيه أحيانًا كنقّاد، أنّه عبارة عن فنّ وُلد وترعرع في أحضان الطبقة الميسورة وداخل البلاطات الملكية والصالونات الثقافية البرجوازية، إلاّ أنّه مع الحقبة الحديثة تحوّل الفنّ التشكيلي إلى وسيلة للنقد وإلى أفق بصري لتعرية أوهام المجتمع وميثولوجياته.إنّ اللوحة إبّان عصر النهضة ساهمت إلى حد كبير في تحقيق نوع من الانبعاث بالنسبة للفنانين ومراجعة ذواتهم وتقديم سرديات نقدية للخطاب الكنسي والنظام الإقطاعي اللذين كانا سائدين طيلة العصر الوسيط. ذلك أنّ النهضة التي عرفتها أوروبا لعب فيها الفن التشكيلي مع ليوناردو دافينشي وبوتشيلي وغيرهما دورًا بارزًا في إنجاح هذه النهضة وتحقيق نوع من التحرّر الداخلي بالنسبة للفنان.
ورغم أنّ الكنيسة وجدت في بعض الأعمال الفنّية مثل “رمز الحظ” للفنان دوسو دوسي و”ثلاثة من النغم” لرافائيل، نوعًا من الخروج عن التقاليد الدينية، إلا إنّ هذه اللوحات التي يُصنّفها نقاد الفنّ ضمن خانة “الفن المسيحي” ظلّت تنسج لها أفقًا بصريًا مغايرًا عبر طرق موضوع العري والتعامل معه كمفهوم قابل للثورة والتحرّر. إنّ هذه الأعمال الفنية وهي تحقق ثورة داخلية داخل النظام اللاهوتي الذي تنتمي إليه، ساهمت إلى حدّ كبير، في نقد الواقع وصناعة سرديات جديدة للتاريخ الأوروبي الحديث. بهذه الطريقة لم تعُد اللوحة عبارة عن بذخ جماليّ، بقدر ما أصبحت الوسيلة الوحيدة بالنسبة للفنّان للاحتجاج على العالم والمختبر البصري الحقيقي الذي يستطيع من خلاله مشاركة أفكاره ومواقفه تجاه السياسة والمجتمع.

إنّ اللون في أعمال أوجين دولاكروا التي أنجزها خلال زيارته للمغرب عام 1832 ليس مجرّد عنصر صباغي أو زخرفي
لم تكُن أوروبا تُعير اهتمامًا للعري داخل الفنّ، إذْ كانت تتعامل دائمًا مع الجسد باعتباره آلة للإنجاب، بمعنى أنّ الجسد عندها لم تكُن وظيفته تخرج عن الشهوة والنسل. لكنْ في اللحظة التي تفجّرت النهضة أحسّ الفنّان أنّ جسده ليس ملكه وأنّ الكنيسة تسلبه جسده وتحاول عبر مجموعة من التعاليم الدينية أنْ تحجب وظيفة هذا الجسد ورغبته في التحرّر من إسار ماضٍ قاسٍ.
لا يهمّنا هنا التحرّر الفني الذي تفجّر في اللوحة، إلاّ لأنّه أتاح للفنّ التشكيلي أنْ يخرج من كونه فنا نخبويا يلامس شغاف الروح، صوب أعمال فنّية مؤثّرة في الواقع، بعدما حقّقت ثورة فنية صنعت تاريخ أوروبا. وفق هذا المنزع الجمالي الجديد أصبح كلّ عمل فنّي ينتقد تحوّلات الواقع يُضمر في طيّاته أيديولوجية ما، يسعى الفنّان من خلالها إلى التعبير عن رأيه ومواقفه وعمله من أجل إعادة نقد التاريخ.
على هذا الأساس، نجد العديد من الأعمال الفنّية كتبت التاريخ وقدّمته بطريقة مؤثرة ربما أكثر من الكتابات التاريخية نفسها، إذْ يصعب العثور على مؤرخ كتب عن فظاعة الحرب الأهلية الإسبانية بالطريقة التي قدّم بها بابلو بيكاسو بشاعة هذه الحرب في لوحته المعروضة في مدريد والموسومة بـ “غيرنيكا”. فقد عمل بيكاسو بطريقةٍ لا مرئية على تصوير الأثر النفسي الذي تركته الحرب عام 1937، واعتبرت هذه اللوحة الجدارية من أكثر الأعمال الفنّية تأثيرًا في التاريخ، لأنّ الفنّان لم يُصوّر هواجسه ومشاعره وطفولته فقط، بل فعل ذلك أيضًا بطريقة راديكالية تنتقد الواقع وتُدين فداحة الحرب، لم يكُن الغرض منها توثيق حدث القصف، وإنّما وضع قضية الحرب في مرآة المختبر التشكيلي البصري. ورغم الإبدالات الجماليّة التي انطبعت بها اللوحة الزيتية إلاّ أن حمولتها الأيديولوجية، جعلت منها أكثر الأعمال الفنية في تاريخ الفنّ الغربي نقدًا وتفكيكًا لسرديات الحرب.
“إنّ اللوحات الغربية ذات النفس الواقعي أو التشخيصي، تُعتبر من اللحظات الفنّية الأكثر إشراقًا في تاريخ الفنّ في علاقته بالمجتمع”
تتميّز اللوحات الأيديولوجية ذات الصلة بالتاريخ عن الأعمال الفنّية الأخرى، في كون الأولى تتوفّر على العديد من العلامات البصرية التي تجعل منها مؤثرة في ذهنية المُشاهد. إذْ يحدس هذا الأخير أنّه أمام عمل فني لا يتمحور حول الذات حتّى وإنْ كان مُنطلقًا له. فهي أعمال تنزع صوب تقديم سردية نقدية للواقع، باعتباره شكلًا من التاريخ الحيّ. غير أنّ استيعاب هذه العلامات البصرية التي لا تكون دائمًا ظاهرة على سطح تضاريس المشهد أو في ثنايا المادة التشكيلية، لا تتأتى إلاّ من خلال عملية إدراك مسبق للسياقات التاريخية والمفاهيم الجمالية والأسلوب البصري الذي يتبناه الفنّان للتعبير عن ذائقته الجمالية، تجاه الذات والواقع والتاريخ والذاكرة. هنا يلعب مفهوم التلقي دورًا أساسيًا في إنتاج الأثر، فهو يُعدّ عنصرًا هامًا في بناء المعنى وفي اكتساب العمل الفنّي شرعيته على مستوى التأويل، إذْ كلّما تعدّد التأويل اكتسبت اللوحة قوّتها وأصالتها. فالتأويل يكون هنا مضادًا للعمل الفنّي وما يرغب الفنّان بأنْ ينحته على تضاريس لوحته، لكنّه مع ذلك يرسم للوحة أفقًا مختلفًا ومغايرًا.
بهذه الطريقة اكتسبت الأعمال الفنية في تاريخ الإنسانية مكانتها وقيمتها، لا انطلاقًا ممّا تُمثّله من فورة على مستوى الألوان أو ثورة من ناحية السند والشكل فقط، بل أيضًا من قدرة بعض الفنانين مثل بيكاسو وهنري ماتيس وأوجين دولاكروا وغويا وغيرهم على التأثير في بنية المتلقي والدفع به إلى نسج علاقة خاصّة مع اللوحات الفنية بكل ما تحمله من مرجعيات تاريخية وسياسية واجتماعية. إنّ اللوحات الغربية ذات النفس الواقعي أو التشخيصي، تُعتبر من اللحظات الفنّية الأكثر إشراقًا في تاريخ الفنّ في علاقته بالمجتمع. ذلك إنّ أغلب الأعمال التي تمزج بين الصباغة والرسم وفق مرجعية واقعية لقيت نجاحًا كبيرًا من لدن الناس، لأنّهم وجدوا فيها امتدادًا حقيقيًا لواقعهم. سيما اللوحات ذات المرجعية الأيديولوجية المعروفة والتي أثّرت بخطابها السياسي في المجتمع. لذلك يجد النقاد في هذه اللوحات مرجعية ثقافية كبيرة ودعامة أساسية تخدم علاقة الفن بالتاريخ والمجتمع. فالنقاد يعطون تأويلات مختلفة لهذه اللوحات ويجعلونها تعيش حياة جديدة في وجدان الناس. إنّ الفنّ الذي لا يُحرّك الأهواء أو يترك جرحًا أو ينتج أثرًا لا يُعوّل عليه، لأنّه يكون مجرّد فنّ ترفيهي عابر وغير مؤثّر. لذلك فإنّ أغلب اللوحات التي تكون ذات حمولة أيديولوجية، يعمد أصحابها إلى نسج نوع من الخطاب البصري الإيحائي من ناحية الألوان والموجز على مستوى الخطاب كبنية بصرية وذلك من أجل تفادي أيّ اصطدام مع السُلطة وسدنتها.

يصعب العثور على مؤرخ كتب عن فظاعة الحرب الأهلية الإسبانية بالطريقة التي قدّم بها بابلو بيكاسو بشاعة هذه الحرب في لوحته “غيرنيكا”
وفق هذا المعطى الفيزيقي في تاريخ الفنّ، تُبلور اللوحة نوعًا من الفكر المجرّد، لكنّه في أساسه عبارة عن فكر منبثق من الواقع وتحوّلاته. فاللوحة على الرغم من كونها تنزع بشكل دائم صوب التخييل، بحكم أنّها تكون عبارة عن سند أو قاطرة بالنسبة للفنّان من أجل إقامة نوع من العبور صوب المتخيّل، فإنّها تبقى عبارة عن وسيط بصري يُبلور فكرًا ويُعانق الكينونة ويُداعب الزمن. لذلك فإنّ المعنى الذي تنسجه اللوحة يبقى على علاقة آسرة مع براديغم الواقع، إذْ تُصبح مثل الكائن الذي يستمد وجوده وطاقته من معطيات الواقع الذي ينتمي إليه. بيد أنّ اللوحة مهما ارتفع منسوب التجريد فيها، فهي تظلّ عبارة عن وسيط يختبر فداحة الواقع وتبدّلاته. إنّ اللوحات النيّرة هي تلك التي تفتح بعوالمها البصرية أفقًا جديدًا للمُشاهد وتحثّه على ابتكار لغته الخاصّة وتدفعه إلى أن يجعل من التاريخ معولًا لهدم اللوحة وإعادة بنائها من جديد، انطلاقًا ممّا تتركه بعض عناصر اللوحة من لون ومادة وحركة وإيقاع في ذاتية المتلقي. إذْ لا تتوقّف ولادة العمل الفنّي بمجرّد انتهاء الفنان من عمله، ولكنّ العمل الجيّد يُتيح للوحة سفرًا جديدًا في تخوم المعنى. ففي مُجمل الأعمال الأدبيّة ونظيرتها الفنّية، سواء كانت لوحة أو رواية أو فيلمًا سينمائيًا، يكتسي مفهوم التاريخ صبغة وجودية في خطابها الجمالي. فهو لا يعدو أنْ يكون مجرّد خطاب يروي الأحداث التي وقعت في الماضي وفق أسلوب كرونولوجي، وإنّما باعتباره سرديّة فكريّة قادرة على الاشتباك مع قضايا مركزية وإشكالات حقيقية تطاول الواقع.
لقد جعل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عام 1966 من لوحات الفنّان الإسباني دييغو فيلاسكيز (1599 ـ 1660) مستهلًا لبناء مشروع فكري يجد ملامحه في فكر الصورة ومتخيّلها. إنّ التاريخ له القدرة على تملكّ الفنّ واستيعابه حتّى يغدو جزءًا لا يتجزأ منه. على هذا الأساس، يشتغل التاريخ في العمل التشكيلي وفق آلية منهجية، بحكم أنّ طبيعة عمل الفنان على السند، أيْ الصورة الثابتة، تدفعه إلى التعامل مع الخطاب البصريّ على أساس أنّه خطابٌ مركب وقابلٌ للإيجاز، لأنه ينطوي على مجموعة من الأشكال والمواد والألوان التي تكون في غالب الأحيان عبارة عن علامات ورموز ودلالات. في هذه الحالة، لا يبني الخطاب التشكيلي معناه إلاّ بالطريقة التي ينظر بها المتلقي إلى اللوحة. إنّ اللون في أعمال أوجين دولاكروا التي أنجزها مثلًا منذ زيارته للمغرب عام 1832 ليس مجرّد عنصر صباغي أو زخرفي، بقدر ما يُمثّل لوحده خطابًا بصريًا موجزًا وقائم الذات، بما يجعل اللون يصبح عبارة عن علامة بصرية تختصر اللغة التشكيلية وتُعيد عبرها إنتاج مفهوم الأثر. في حين أنّ الصورة المتحرّكة في السينما تجعل المعنّى يتّسع، حيث تغدو الصورة السينمائية بمثابة فضاء للتفكير وإنتاج المعنى.

أخر المقالات

منكم وإليكم