قراءة في كتاب الذاكرة الجمعية ل موريس هالبواش

الذاكرة الجمعية- تأليف: موريس هالبواش- ترجمة: نسرين الزهريعالج موريس هالبواش في هذا الكتاب مسألة الذاكرة بوصفها ظاهرة اجتماعية تتجاوز حدود الفرد، وترتبط بالبنى الجماعية التي يعيش داخلها الإنسان. يبيّن أن التذكّر لا يتم في فراغ نفسي خاص، وإنما يتشكّل داخل أطر اجتماعية تحدد ما يُستعاد من الماضي وكيف يُستعاد ولماذا يُستعاد في لحظة تاريخية معينة. يرسّخ الكتاب تصوراً يرى الذاكرة فعلاً جماعياً مشتركاً، مرتبطاً باللغة والعادات والمؤسسات والرموز، ومتصلاً بالهوية الاجتماعية أكثر من اتصاله بالخبرة الفردية المعزولة.الإطار النظري لمفهوم الذاكرة الجمعيةيؤسس هالبواش مفهوم الذاكرة الجمعية انطلاقاً من نقد التصورات النفسية الفردانية للذاكرة. يوضح أن الفرد يتذكّر بوساطة الجماعة، وأن استدعاء الماضي يتم دائماً من داخل سياقات اجتماعية حاضرة. الذاكرة في هذا المنظور هي بناء متجدد يعاد تنظيمه باستمرار وفق حاجات الحاضر. يبرز هالبواش أن الجماعات المختلفة تمتلك ذواكر متمايزة، لأن لكل جماعة منظومة قيم وتمثلات تحدد ما يستحق الحفظ وما يُترك للنسيان.الأطر الاجتماعية للذاكرةيفصل الكتاب في مفهوم «الأطر الاجتماعية» التي تمنح الذاكرة شكلها ومعناها. يشرح أن العائلة، والدين، والطبقة الاجتماعية، والمؤسسات، والمكان، والزمن، تشكّل كلها أطرًا تنظّم عملية التذكّر. يوضح أن الذاكرة العائلية تختلف عن الذاكرة الدينية، وأن الذاكرة الطبقية تعكس موقع الجماعة داخل البنية الاجتماعية. تظهر الذاكرة هنا كنتاج تفاعل بين الفرد وهذه الأطر، حيث يستحيل فصل التجربة الشخصية عن الإطار الجمعي الذي يمنحها قابليتها للفهم والاستمرار.العلاقة بين الذاكرة والتاريخيميز هالبواش تمييزاً دقيقاً بين الذاكرة والتاريخ. يقدّم الذاكرة باعتبارها حية، متغيرة، مرتبطة بالجماعات التي تحملها، في حين يعرض التاريخ كخطاب علمي يسعى إلى إعادة بناء الماضي بعد انقطاعه عن الجماعات الحية. الذاكرة الجمعية تحتفظ بالماضي بقدر ما يخدم هوية الجماعة واستمراريتها، بينما يعمل التاريخ على تنظيم الوقائع وفق مناهج نقدية. يبرز الكتاب أن الذاكرة لا تسعى إلى الدقة بقدر ما تسعى إلى المعنى، وأنها تعيد تشكيل الماضي بما ينسجم مع الحاضر.الذاكرة والمكان والرمزيولي هالبواش أهمية خاصة للمكان بوصفه حاملاً مركزياً للذاكرة الجمعية. يبيّن أن الأمكنة، من مدن وأحياء ومعالم، تختزن الذكريات وتمنحها ثباتاً نسبياً. تتجسد الذاكرة في الفضاءات المادية والرمزية، وتصبح المعالم وسائط لحفظ الماضي واستعادته. يوضح أن الجماعات تعيد تفسير المكان باستمرار، فتمنحه دلالات جديدة مع الحفاظ على بنيته العامة، ما يسمح للذاكرة بالاستمرار عبر التحولات التاريخية.البعد السياسي والثقافي للذاكرةيكشف الكتاب عن التداخل العميق بين الذاكرة والسياسة والثقافة. يوضح أن الذاكرة الجمعية تُستخدم في تشكيل الهويات القومية والاجتماعية، وفي تبرير المواقف والمشاريع السياسية. تظهر الذاكرة هنا كحقل صراع بين جماعات تسعى إلى فرض روايتها الخاصة عن الماضي. يبرز هالبواش أن السيطرة على الذاكرة تعني التأثير في الحاضر، لأن ما تتذكره الجماعة يحدد رؤيتها لذاتها ولمستقبلها.الخلاصة الختاميةيقدّم «الذاكرة الجمعية» تصوراً تأسيسياً للذاكرة بوصفها بنية اجتماعية دينامية، تتشكل داخل الجماعات وتخضع لتحولات الزمن والحاضر. يرسّخ الكتاب فكرة أن التذكّر فعل جماعي منظم بأطر اجتماعية، وأن الماضي يُعاد بناؤه باستمرار وفق حاجات الحاضر. يشكّل هذا العمل مرجعاً أساسياً لفهم العلاقة بين الذاكرة والهوية والتاريخ، ويفتح أفقاً نقدياً لدراسة النسيان والتذكّر في المجتمعات الحديثة.صفحة سالم يفوت#مجلة ايليت فوتو ارت

أخر المقالات

منكم وإليكم