دراما تواكب التغيير السوري
راسم المدهون
في وعي العلاقة بين الذاكرة الجمعية السورية والدراما عمومًا، وبالذات “دراما الصورة” السينمائية والتلفزيونية، نشير إلى حقيقة كبرى تحققت مع حدث التغيير الكبير الذي وقع في البلاد في مثل هذه الأيام قبل عام من اليوم. سقوط النظام الديكتاتوري يعني “فنيًا” سقوط الرقابة الصارمة التي كانت تسنده وتؤمن له الحماية، وتمنحه في الوقت ذاته سلطة تزوير صورة الواقع وإغراقها في التشويه إلى الحد الأقصى الممكن، وتكريس روايته الزائفة التي كرسها خلال عقود سيطرته.هي لحظة الوعي بمعناه ومستواه الفني، والتي تعني بدرجة أولى وأساسية الخروج من دراما الارتباك والتلعثم في قراءة الواقع وما تحمله وترسمه من تشوهات، كان وجودها يجعل الدراما متناقضة وناقصة وغير مفهومة، أي أنها في أحسن حالاتها دراما مشوهة تكرس قصورًا فنيًا وسياسيًا عاجزًا يحبط الفن والفكر معًا، ويضعهما في حالة عاجزة عن رفد المشاهدين بالحقائق، وتحرمها كدراما من خلق وتعميق التواصل الموضوعي مع مشاهديها من مواطنيها السوريين وغير السوريين.سقوط النظام الديكتاتوري هو أيضًا سقوط “سلطة الرقابة” وانطلاق عصر جديد ونهاية الإحباطات، وحتى انتفاء حالة “التحايل” السابقة على الرقابة والترميز واللجوء إلى لغة درامية “مراوغة” وغير واضحة ولا مفهومة في أغلب الأحيان، ومعها ابتداء لغة وأساليب تعبير درامي حرة وتمتلك التعبير بكامل حريتها وطاقاتها لتقديم أعمال فنية بكامل الدسم كما يقولون. هي مسألة على قدر عظيم من الأهمية، وهي تعني أكثر ما تعني إطلاق إبداعات فنية تستعيد العلاقة الطبيعية والصحية بين أطراف الدراما بدءًا من المؤلف والمخرج بالذات، وصولًا للمشاهدين، وبينهما تأسيس علاقة صحية وطبيعية بينهم جميعًا وبين وجود مؤسسات إنتاج تمتلك شروطًا طبيعية لتأسيس صناعة درامية حرة، ولها وجودها المكتمل والقادر على العمل بحرية وكفاءة، كان وجودها قبل ذلك ضربا من الحلم الخيالي الذي يرفضه الواقع بل يمحوه من الخيال ذاته.”سقوط النظام الديكتاتوري هو أيضًا سقوط “سلطة الرقابة” وانطلاق عصر جديد ونهاية الإحباطات، وحتى انتفاء حالة “التحايل” السابقة على الرقابة والترميز واللجوء إلى لغة درامية “مراوغة” وغير واضحة ولا مفهومة”
أهم ما يرافق هذه الحالة الجديدة هو أن التجربة القاسية التي عاشتها سورية خلال العقود الماضية، وبالذات خلال سنوات الثورة وما رافقها من حروب واقتتال، خلقت ذاكرة سورية غنية بل شديدة الغنى بقصص وحكايات يومية تستحق استعادتها فنيًا وتظهيرها في أعمال درامية واقعية لها قوة الحياة التي عشنا خلالها سنوات من وقائع قسوة غير مسبوقة ذهب ضحيتها قتل وتشريد الملايين وتدمير مدن وأحياء كبرى على نحو لم تشهده بلدان أوروبا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، استعادة تلك “الحياة” بما فيها من مشهديات مرعبة وقصص وحكايات ضحايا وعوالم قسوة هي بحد ذاتها “تراجيديات واقعية” تحولت على مدى عقد ونصف العقد من عمر البلاد والناس إلى شخصيات ووقائع وأحداث “تبحث عن مؤلف” وعن مخرج وممثلين وعن حركة إنتاجية تستعيد وترسم وتحقق أعمالًا درامية غنية بتفاصيلها ومقولاتها وبما فيها من آلام كبرى ومن مآس تطفح بنبض البشر العاديين ولآلامهم وعذاباتهم.كنا مع انطلاق النهضة الإنتاجية الدرامية الكبرى في سورية نرى العلاقة بين هذه الدراما وجمهور مشاهديها فنقول مجازًا إن المواطن قد تحول معها إلى “كائن درامي” ولا نبالغ اليوم حين نؤكد أنه تحول هذه المرة إلى “كائن تراجيدي” وهو يحتاج بصورة كبرى لرؤية حياته التي مرت من دون أن تغادر ذاكرته ووعيه إلى نهضة فنية تواكب ذلك كله، وتحسن إطلاقه والتعبير عنه بأدوات فنية وجمالية مبدعة وتمتلك دقتها وصدقيتها، وبعبارة نشير لذلك كله انطلاقًا من ثقتنا الكبرى بما تمتلكه الحركة الفنية السورية من عناصر مبدعة في مفردات الفن كلها، وهي عناصر سبق أن حققت نجاحات عظيمة قبل ذلك بالرغم من شروط معاكسة لها خلال العقود التي سبقت التحول الكبير، وهي نجاحات ساهم فيها مخرجون مرموقون وكتاب أحسنوا التعبير بجماليات فنية وفكرية انحازت للتعبير الجدي والمبدع، وحققت تواصلًا مع جمهورها الواسع داخل سورية وفي الساحات العربية على السواء.ما نشير إليه من دراما سورية قادمة لا يقف عند حدود التراجيديا والأعمال التي تندرج في سياقها بل أيضًا في مجال الكوميديا التي نعتقد أنها لا تنفصل عن الحدث السوري السياسي والاجتماعي، فهي أيضًا مطلوبة بل وقادرة على التعبير بأساليبها وأدواتها الساخرة والكاريكاتورية عن أحداث سنوات المحنة التي كانت في حالات كثيرة ضربًا من المآسي الكوميدية التي تناقض العقل والمنطق وتشابه الكوميديا السوداء. هي أيضًا ساحة نقد ومساحة تعبير بلغة مختلفة وذات حضور نقدي لاذع له تأثيره العميق في رؤية الواقع والأحداث، مثلما له قوة تعبيره في رسم مشهد القسوة ورسم ملامح الحياة الشاذة والمثقلة بغرائبيتها ووقائعها التي تقارب اللامعقول وما فيه من فرادة.الدراما السورية التلفزيونية بالذات هي اليوم الوجه الآخر للمأساة السورية ذاتها، وهي بقدر ما تكتنزه من قصص وحكايات وصور وقائع وأحداث مدعوة لتحقيق انطلاقة كبرى تحتاج بالضرورة لتأسيس شركات إنتاج حقيقية بعيدًا عن هيمنة بعض شركات كانت تمارس الإنتاج الدرامي كوسيلة لغسل الأموال، وما ندعو إليه اليوم يعني بالدرجة الأولى استعادة بعض أهم المخرجين والفنانين الذين أجبروا خلال عقدي الثورة والحرب على مغادرة البلاد، واستعادة حضورهم الفني في الصناعة الدرامية بما يمتلكون من مواهب فنية كبرى ومن تجارب فنية حققوا خلالها أعمالًا درامية مرموقة لم تزل حية في ذاكرة المشاهدين، وتشكل علامات بارزة في تاريخ الفن السوري والعربي عمومًا، لعل أبرزهم “شيخ المخرجين” السوريين هيثم حقي الذي قدم أعمالًا درامية كبرى لا تحصى وقدم مخرجين مرموقين لعل أبرزهم الراحل الكبير حاتم علي، صاحب التجارب التلفزيونية الأهم في المجالين الواقعي الاجتماعي والتاريخي، ومعهما عدد من المخرجين المرموقين والناجحين


