“حجر السمنار” بالبناء الروائي إستجابة ثرية وواعية لرغبة الروائي ذاته بأن يلعب دور “الحكواتي”منطلقا من”مخزون” حدثه وسرديته.- مشاركة: راسم المدهون.



عن أهمية أن يكون الروائي حكواتيًا
راسم المدهون 
عناصر كثيرة دخلت للرواية الجديدة حول العالم، وتلك مسألة مفهومة ومنطقية فرضها ما شهدته الحياة البشرية ذاتها من تبدلات ومفاهيم، وحتى أشكال عيش لم تكن موجودة من قبل. مع ذلك، فـ”حجر السمنار” في البناء الروائي لم يزل الاستجابة الثرية والواعية لرغبة الروائي ذاته في أن يلعب دور “الحكواتي”، وينطلق من “مخزون” حدثه وسرديته وما تحملانه من حكاية رئيسة تنطوي في ثناياها حكايات أخرى صغيرة أو ثانوية، لكن لا غنى عنها. وهي مسألة فردية حقًا، لكنها تنطوي على عمومية وجودها كعنوان لمحتوى إبداعي متنوع وزاخر بالاختلاف، الذي يحمل كل مرة بصمة أخرى تكون مبدعة بقدر ما تكون جديدة غير مسبوقة من قبل.
بمقاربة أخرى، تبدو مسألة حضور “الحكواتي” وحضور سرديته الجديدة بالذات هي العنصر الأهم الذي يدعونا الروائي من خلاله إلى “ملاحقة” تفاصيل حدث تتناسل منه أفعال وتفاصيل وملامح بشر وطرائق تفكيرهم وحتى صور حياتهم اليومية واختياراتهم. قوة بناء الشخصية الروائية تحمل في جانب منها “سطوع” ما تحمله في تكوينها وملامحها وصفاتها من “فرادة” تمكنها من امتلاك “أحقية” أن يفرد لها الإبداع الروائي عملاً خاصًا بها يجعلها حاجة جديرة بتعرف الآخرين عليها، ومتابعة تفاصيلها، والاستفادة من ذلك كله بمتعة.
ولأن الفن، ومنه الرواية كسفر سردي تتصارع داخله حيوات وأفكار وحتى أمزجة مختلفة، تصعد إلى مكانة عليا مسألة حضور الكاتب باعتباره هنا “السارد”، صاحب الرواية والقابض على جزئياتها وتفاصيلها ومآلات أحداثها في سياق يستوعب بعد ذلك أية إضافات أو عناصر أخرى، سواء تعلقت مباشرة ببؤرة الحدث السردي أو حضرت في صورة جانبية ثانوية. وبهذا المعنى تستبعد القراءات النقدية عمومًا كل التجارب التي لا تأخذ هذا بعين الاعتبار، لأنها تصفها عادة بأنها تجارب “لم تتوفر فيها عناصر الرواية”، وهو ما يحدث في كل تجارب وتقييمات لجان التحكيم التي تتولى فرز وتقييم الأعمال الروائية التي تقدم لها للمشاركة.
هذا “حكم قيمة” لا علاقة له بحرية الكاتب في التجديد والتمرد على “الشكل الكلاسيكي” في الرواية؛ لأنه يقع خارج سياق التجديد وضفافه مهما تعددت، إذ يحتفظ بقيمة أن تظل الرواية جنسًا أدبيًا يقع في قلب مفهوم السرد، ويهتم بوجود الحكاية التي تلعب دور بؤرة الضوء، وتكون بعد ذلك، وانطلاقًا منه، مساحة تلعب فيها المخيلة دور التجول في شعاب حكاية كبرى تأتلف في نسيجها حكايات أخرى هي قوام الحياة الإنسانية وبعض تفاصيلها.
ربما لهذا السبب بالذات لم يزل مزاجنا –عمومًا– يذهب بحنينه في اتجاه الروايات الكلاسيكية الأكبر والأشهر، خصوصًا وأن تلك الروايات شكّل خلالها الصراع بين شخصياتها وأبطالها جوهر بنائيتها ومركز حدثها السردي الذي يعيد صياغة الأفراد ومصائرهم، أو بقول آخر يقرر مصير الرواية ذاتها والنقطة التي تستهدف الوصول إليها.
“الانحياز لدور الحكاية و”الحكواتي” لا يتناقض مع حضور أية أساليب جمالية يختارها الكاتب الروائي، والتي تظل مفتوحة بلا حدود”
نقول ذلك، وفي تقديرنا أنه لا يصح في الحكم على الروايات التاريخية أو التي تستعيد أحداثًا سياسية واجتماعية كبرى أو حتى حروبًا ومآسي عظيمة وحسب، بل يصح حتى بتلك الروايات التي تعالج حياة فردية خاصة؛ فالمسألة هنا وهناك تخص موضوع السرد ذاته باعتباره نوعًا من إبداع بشري للتواصل بين البشر والتعبير عن الرغبة في جذب انتباههم واهتمامهم لحكايات وقصص يرونها جديرة بأن تخرج من ذهن ومخيلة صاحبها لتثير جدلًا متنوعًا ومختلفًا بالتأكيد، ويحمل بتنوعه واختلافه قدرة الزج بنا على استعادة تفاصيل من حياتنا بصورة أخرى وكيفيات أخرى.
وهي مسألة تتعلق بدرجة أولى وحاسمة بفنية الرواية، إذ إن الغاية الأهم من وراء ذلك السرد “المقتطع” من حياة هذا الإنسان أو ذاك، أو حتى المتخيل كي يشبه حياته الواقعية، هي استحضار الحياة ذاتها كي تلعب دورها من جديد بطرائق مختلفة. ذلك يظل حقيقيًا وممكنًا، بل ومطلوبًا في الحالات كلها، وإن اختلفت التجارب وتنوعت الأساليب ورؤى المخيلات الفردية.
هكذا يمارس الروائي لعبته الأهم؛ أعني أن يقوم بدور “الحكواتي” الذي يبرع في انتقاء “موشورات” حياتية لها فراداتها الخاصة، وبالذات “الشائكة” والعاصفة في مأزقها العام أو الخاص، كي يزج بها في “مسرح مخيلة القارئ”، ويضعها مباشرة في مواجهة رؤى متباينة، أو على الأقل متعددة، وتحمل زوايا نظر ليست موحدة.
وفي سياق كهذا، من المفيد الإشارة هنا إلى أن هذا الانحياز لدور الحكاية و”الحكواتي” لا يتناقض مع حضور أية أساليب جمالية يختارها الكاتب الروائي، والتي تظل مفتوحة بلا حدود، لكنه يبدي حرصه الأهم على المحافظة على فكرة السرد وقوامها الأهم: نقل تجارب ووقائع ما للآخرين في صورة فنية تمتلك وهجها الخاص القادر على تشكيل بؤرة اهتمام تحمل عناصر حيوية الحضور وقوة تعبير الشخصيات وانتسابها للحياة.
الرواية هي بعد ذلك، بل وحتى قبله، مسرح مفتوح على مرايا كاشفة لأبطالها وعوالمهم الداخلية، وبالتأكيد لما يدور بهم ومعهم من أحداث لها تفاصيلها مثلما لها رؤاها ومقولاتها وأفكارها العامة والشخصية التي تنتمي لقناعات وانتباهات مختلفة بالضرورة وتتشكل حسب اختلافات أصحابها ومبدعيها، ما يجعل الحديث عن روايات اجتماعية وأخرى سياسية وثالثة نفسية… إلخ، مسألة طبيعية ومفهومة، وتنطوي على قدر كبير من مرونة وحيوية هذا الجنس الأدبي الجميل، والذي يختص في جانبه الأهم بالإحاطة بالحدث الواقعي الحياتي وبمن يقوم به، ومن يعيشون في حيزه المكاني والزمني، وما يحملون من أفكار وقناعات خاصة هي بالضرورة في حالة صراع دائم لا يهدأ مع كل ما يحيك بها من اختلافات وتناقضات لا نبالغ حين نقول إنها تشكل مجتمعة الحياة ذاتها.

راسم المدهوم


أخر المقالات

منكم وإليكم