بريق السراي الحمراء بطرابلس يستعيد مجده الغابر وينطلق بقوة وتميز


.
السراي الحمراء بطرابلس تستعيد بريقه

بعد إغلاق دام قرابة 14 عامًا، عادت أبواب المتحف الوطني الليبي لتُفتح من جديد أمام الزوار، في لحظة وصفها مسؤولون ليبيون بأنها شهادة على قدرة البلاد على إعادة بناء مؤسساتها رغم سنوات الاضطراب والانقسام السياسي. المتحف الذي يحتضنه مجمع قلعة السراي الحمراء التاريخي في قلب العاصمة طرابلس، يضم مقتنيات تروي حكاية خمسة آلاف عام من تاريخ هذه البقعة من شمال أفريقيا. 
أُقيم حفل إعادة الافتتاح مساء الجمعة الماضي وسط أجواء احتفالية تخللتها الألعاب النارية التي أضاءت سماء المدينة القديمة. وقد حضر الحفل كبار المسؤولين الحكوميين وسفراء ورؤساء بعثات دبلوماسية معتمدة لدى ليبيا، فضلًا عن فنانين وإعلاميين من مختلف أنحاء العالم العربي. وفي كلمته الافتتاحية، وصف رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة المتحف بأنه “ذاكرة الوطن الكاملة”، مؤكدًا دوره في صون تاريخ ليبيا العميق وحضاراتها المتعاقبة، من المستعمرات الإغريقية والرومانية إلى الموروث الإسلامي، وانعكاس هوية الشعب الليبي عبر العصور. 
كان المتحف قد أُغلق في شباط/ فبراير 2011 مع اندلاع الانتفاضة التي أطاحت بنظام معمر القذافي بدعم من حلف شمال الأطلسي (الناتو). وفي آب/ أغسطس من ذلك العام، حين شنّ الثوار هجومهم الأول على العاصمة، اقتحمت مجموعة مسلحة مبنى المتحف اعتقادًا خاطئًا بأنه يخفي مدخلًا لنفق حكومي سري. لكن القطع الأثرية ظلت سالمة في معظمها، باستثناء بعض المقتنيات المرتبطة بالنظام السابق التي تعرضت للتخريب، ومنها سيارة فولكس فاغن بيتل من طراز الستينيات كانت ملكًا للقذافي الذي سبق أن ألقى خطابًا ناريًا شهيرًا من على أسوار القلعة ذاتها. 
انطلقت أعمال التجديد في آذار/ مارس 2023 بإشراف حكومة الوحدة الوطنية التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها، وكانت قد تسلمت السلطة عام 2021 في إطار عملية سياسية رعتها الأمم المتحدة. ويمتد المتحف، الذي شُيّد في ثمانينيات القرن الماضي وافتتحه القذافي، على مساحة 10 آلاف متر مربع من قاعات العرض التي تحتضن لوحات فسيفسائية وجداريات ومنحوتات وعملات معدنية وقطعًا أثرية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وتمتد عبر الحقب الرومانية والإغريقية والإسلامية. كما تضم المجموعة قطعًا من الفن والعمارة الإسلامية، إلى جانب مقتنيات من حقبة الاستعمار الإيطالي والحرب العالمية الثانية ومرحلة الاستقلال، مع أجنحة مخصصة لعصور ما قبل التاريخ والقبائل الليبية القديمة كالجرمنتيين. 
ومن بين أبرز ما يعرضه المتحف مومياوات يعود عمرها إلى آلاف السنين، اكتُشفت في المستوطنات القديمة بجبال أكاكوس (تادرارت أكاكوس) في أقصى الجنوب الليبي قرب الحدود الجزائرية، وفي واحة جغبوب بالقرب من الحدود الشرقية مع مصر. وقد صُمم المتحف بالتعاون مع منظمة اليونسكو ليغطي خمسة آلاف عام من التاريخ، من عصور ما قبل التاريخ وصولًا إلى حقبة ثورة الاستقلال عام 1951.
أما قلعة السراي الحمراء ذاتها فتُعدّ من أبرز المعالم التاريخية في طرابلس، وتطل على ميناء المدينة وساحة الشهداء. يعود أقدم ما عُثر عليه من آثار في موقعها إلى العصر الروماني في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وربما إلى ما هو أقدم من ذلك حين أسس الفينيقيون مدينة “أويا” في القرن السابع قبل الميلاد. مرّت القلعة بأيدي حكام متعاقبين عبر التاريخ، من الوندال والبيزنطيين إلى الفاتحين المسلمين بقيادة عمرو بن العاص عام 642 ميلادية، ثم الأمويين والعباسيين والأغالبة والفاطميين والزيريين والموحدين والحفصيين. وفي عام 1510، استولى عليها الإسبان بقيادة الكونت بيدرو نافارو، ثم انتقلت عام 1523 إلى فرسان القديس يوحنا (فرسان مالطا) الذين طُردوا من رودس على يد العثمانيين. يُقال إن القلعة صُبغت باللون الأحمر المغرة في تلك الحقبة، ومن هنا جاءت تسميتها “القلعة الحمراء” أو “كاستيلو روخو” بالإسبانية. 
بعد الفتح العثماني عام 1551، حوّل الوالي الأول مراد آغا كنيسة القديس ليونارد داخل القلعة إلى مسجد، واتخذها الولاة اللاحقون مقرًا للحكم. ظلت القلعة مركز السلطة في عهد الأسرة القرمانلية (1711-1835)، وضمت في تلك الحقبة قاعة استقبال للوفود وقناصل الدول الأجنبية، ودارًا لسك العملة، ومقرًا للقضاء، وصيدلية حكومية، ومخازن وسجونًا وطواحين. ومع الاحتلال الإيطالي عام 1911، استُخدمت القلعة مقرًا للحاكم العام، ثم تحولت عام 1919 إلى متحف للمرة الأولى في تاريخ ليبيا. وفي عشرينيات القرن الماضي، أعاد المهندس المعماري أرماندو برازيني تصميمها وترميمها. وحين احتل البريطانيون ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، شغل المتحف مجمع القلعة بأكمله، وأُعيدت تسميته “المتحف الليبي” عام 1948، ثم أُعيد افتتاحه للجمهور عام 1988 باسم “متحف السراي الحمراء” بتجهيزات حديثة. 
وفي سياق متصل، أعلن رئيس مجلس إدارة مصلحة الآثار الليبية محمد فرج الشكشوكي أن ليبيا استردت 21 قطعة أثرية كانت قد هُرّبت خارج البلاد بعد سقوط نظام القذافي، ولا سيما من فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة الأميركية. وأضاف أن مفاوضات جارية حاليًا لاسترداد أكثر من 20 قطعة أخرى من إسبانيا والنمسا. وكانت ليبيا قد تسلمت في آذار/ مارس 2022 تسع قطع أثرية من الولايات المتحدة، شملت رؤوسًا حجرية جنائزية وجرارًا وقطعًا فخارية. ومن أبرز القطع المستردة تمثال “الرأس المحجب لامرأة” الذي يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وكان قد نُهب من مدينة قورينا (شحات) الأثرية وهُرّب إلى مصر ثم إلى نيويورك حيث عُرض في متحف المتروبوليتان منذ عام 1998. وفي تموز/ يوليو 2023، أعاد مكتب المدعي العام في مانهاتن قطعتين أثريتين إلى ليبيا بقيمة إجمالية تتجاوز 1.26 مليون دولار، كانتا قد نُهبتا من قورينا وهرّبهما تاجر الآثار البريطاني المُدان روبن سايمز. 
تضم ليبيا خمسة مواقع مدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، هي: الموقع الأثري لمدينة قورينا (أُدرج عام 1982)، والموقع الأثري لمدينة لبدة الكبرى (1982)، والموقع الأثري لمدينة صبراتة (1982)، ومدينة غدامس القديمة (1986)، ومواقع الرسوم الصخرية في تادرارت أكاكوس (1985). وفي عام 2016، أُدرجت المواقع الخمسة جميعها على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر بسبب حالة عدم الاستقرار والنزاع المسلح ووجود جماعات مسلحة في هذه المواقع أو بالقرب منها. 
غير أن بارقة أمل لاحت في تموز/ يوليو 2025، حين أعلن وفد ليبيا لدى اليونسكو أن مدينة غدامس القديمة، الملقبة بـ”لؤلؤة الصحراء”، قد حُذفت من قائمة المواقع المهددة خلال الدورة السابعة والأربعين للجنة التراث العالمي، وذلك بفضل تحسن الوضع الأمني وجهود الترميم والصون التي قادها مشروع “إدارة التراث الثقافي الليبي” (MaLiCH) بالتعاون مع مؤسسة التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع (ALIPH) وجامعة كينغز كوليدج لندن والمجتمع المحلي. وقد حاز هذا المشروع جائزة إيكروم-الشارقة للممارسات الجيدة في صون التراث الثقافي في المنطقة العربية عام 2024. 
أما فيما يخص الزيارات، فقد أوضحت مديرة المتحف فاطمة عبد الله أحمد أن البرنامج الحالي يركز على تمكين المدارس من زيارة المتحف في هذه المرحلة، على أن يُفتح رسميًا أمام عموم الجمهور مطلع العام الجديد. وتأتي إعادة افتتاح المتحف في سياق تعافٍ تدريجي للقطاع الثقافي الليبي، رغم استمرار الانقسام السياسي بين إدارتين في الشرق والغرب لم توحدا ميزانيتيهما منذ أكثر من عقد. لكن المتحف، كما قال أحد المسؤولين، يمثل رمزًا يمكن للجميع الالتفاف حوله، في بلد لا يزال يبحث عن استقراره.
 مجلة ضفة ثالثة
مجلة ايليت فوتو ارت

أخر المقالات

منكم وإليكم