بإخراج فيلم“ماء الفضة”وانفجار السكون والسكوت. المخرج :أسامة محمد وشريكته :وئام بدرخان .- تقديم: رندة الرهونجي.


  اسامة  محمد وشريكته وئام بدرخان  في اخراج فيلم “ماء الفضة” وانفجار السكون والسكوت

رندة الرهونجي
لم يأت “ماء الفضة” (2014) لأسامة محمد وشريكته وئام بدرخان، منفصلا عن السياق السينمائي السابق لمخرجه، فالفيلم الذي ذهب باتجاه التجريب الشكلي والسردي بقي يشكل امتداداً فكرياً لسينما أسامة محمد منذ فيلمه التسجيلي القصير “خطوة خطوة” (1979)، مروراً بفيلميه الروائيين “نجوم النهار” (1988) و”صندوق الدنيا” (2002). لكن “ماء الفضة” شكّل مع ذلك منعطفاً في سينما صانعه، محرضاً على التأمل داخل مقترحات جديدة في البناء وفي علاقته مع صورة قام بصناعة بعضها وانصاع لأغلبها الآخر الذي أتاه منتهياً فقام بتوطينه ضمن نسيج زاوج بين الحدث السوري حينها والحدث الشخصي الداخلي، آخذاً بذلك عمله السينمائي نحو مغامرة بصرية وبنائية بدت استثنائية داخل نسق السينما التسجيلية التي وثّقت للثورة السورية.
يأتي “ماء الفضة” ليعيد التأكيد على أن لا منطقة وسطى في علاقة المتلقي بسينما أسامة محمد. إما أن يشعر بالانتماء لهذا النزوع الدائم باتجاه الحدود القصوى للقول من خلال صورة مركبة تحب المجاز والاستعارة والاستدلال حتى في نقلها الأمين للواقع، أو أن يشعر بالابتعاد. من هنا بدا الفيلم أشبه بمحاولة لكتابة أجمل قصيدة سينمائية عن أقبح حدث مُعاش.
هي إذن ثنائية القبح والجمال التي ستشكل واحدةً من مرتكزات فيلم يروي حكايته من خلال صورة متباينة الطبيعة والنوعية والمناخ، وُضعت داخل قالب سردي خلق مسافة تأملية من الراهن، مكّنته من الابتعاد عن الانفعال اللحظي بالحدث السوري غير المنتهي بعد، فعمد إلى توسيع عين الكاميرا الكاشفة عن خط سير وتوسع وامتداد رقعة الثورة في أجزاء، وإلى تضييقها على الحدث الداخلي الخاص في أجزاء أخرى.
حمل “ماء الفضة” نفساً ملحمياً في البناء والتصعيد وفي تقسيم البنية الفيلمية إلى أجزاء ومراحل زمنية وفق رؤية ذاتية لتسلسل الحدث ،وأخرى سينمائية تدرك أن الفيلم التسجيلي ليس إلا فيلماً روائياً يتم بشخصيات تؤدي دورها الحقيقي في الحياة لتصنع من تلك البؤرة التوثيقية نقطة انطلاق نحو هيكيلية تتسع دوائرها باتساع إمكانيات القراءة فيه.
إنها رؤية قسّمت الحدث السينمائي إلى قسمين أساسيين تفرعت عن كل قسم عناوين متعددة ستظهر إما مكتوبة على الشاشة، أو بصوت أسامة محمد نفسه – صاحب الخط السردي الصوتي المرافق للفيلم، أو بقطع كامل للصوت تاركاً للقطته الثابتة الصامتة رسم فصل جديد من السرد، أو متمما بها ما بدا مقتطعاً في لحظات سابقة.
أتى القسم الأول صادماً وقاسياً ومخيفاً، في مشاهده وإيقاع صوره المتلاحقة ومقاطع الفيديو التي صوّرها الشباب السوري بنفسه، موثقاً من خلالها انتفاضته الشعبية، وتظاهراته، وأنفاسه الخائفة، وهتافاته المنتحرة،  ولهاثه المحموم، وهو يلتقط ويسحب جرحاه وقتلاه، مقرراً تسجيل لحظة موته وولادته الجديدة أيضاً. لكن السرد لن يُترك مسترسلاً بتوثيقه، بل سيقطعه توطينٌ للحظات التعذيب والإهانة والإذلال، من خلال مشاهد مصوّرة بلقطات ثابتة طويلة سُحب الصوت منها، لتُسجل قولها الصامت الرديف. هذا التخلي الصوتي المؤقت للتعليق والذي سيترك المشاهد وحيداً في مواجهة صورة عليه أن يحتملها وحيداً، سيجعله يتمسك بالصوت حين يعود إلى الصورة، كمن يمسك بخيط أمانه كي يضمن بأنه لن يُترك دون مرافق داخل حكاية العنف والقسوة والموت هذه، فيكتسب حينها التعليق، كعنصر أساسي في السينما التسجيلية،  بعداً جديدا ًفي الفيلم.
لا شك أن الثورة السورية قد عرفت وما زالت آلاف اللحظات المسجلة والمرفوعة على “اليوتيوب” بسخاء كبير، وهو ما قاله صانع الفيلم منذ البداية بعبارة “من ألف صورة وصورة صوّرها ألف سوري وسورية ..سورية واحدة ..وأنا”، لكن الفيلم اختار منها الصور الأكثر دلالية لمعنى الانفجار…”الانفجار الكبير” لبدء الخليقة ربما! انفجار السكون… انفجار السكوت…
ومن بعد، كمن خرج من باطن الأرض المقلوبة، ومن جحيم الموت والخراب، سيبدأ القسم الثاني من الفيلم بصوت شريكة أسامة محمد في صناعة هذا القسم وئام بدرخان وهي تنقر على مفاتيح الكيبورد، مثل كائن خرج للتو من موته الكبير، وبدأ يبحث عن عنصر بقاء يصله بالحياة، ولتجد نجاتها في جواب يأتيها من الطرف الآخر للمحادثة عبر موقع للتواصل الاجتماعي. عثرت وئام بدرخان على أسامة محمد لتسأله عما إذا كان سيختار تصويره لو كان مكانها حيث هي في مدينة الخراب والموت: حمص. وهو بدوره عثر عليها، ليجد عندها الخلاص من جحيم صراعه الداخلي مع فكرة العودة إلى سورية التي غادرها إلى باريس مع بدء الثورة.
ذاك الصراع الذي شكّل انعطافة في السرد من الحدث العام نحو الخاص من خلال مساحة بوح ذاتي ستبدو مفصلية لتموضع مخرج العمل داخل سياق الحدث السينمائي القادم، حيث قراره بعدم العودة الى سورية بعد أن التقى وئام عبر الإنترنت وبداية علاقة تبادلية تشاركية بينهما من أجل صناعة الفيلم الذي نشاهده.
هذا الفاصل مهّد للقسم الثاني الذي شكّل الثقل التأملي والفكري للفيلم من خلال حواراتهما بعد أن حملت كاميرتها وبدأت تصور تفاصيل مدينتها المدمرة، مستعيرة لهذه المهمة رؤية شريكها الذي استعار بدوره عينها.
سيدخل حينها الفيلم لعبة الفيلم داخل الفيلم، وستبدأ المحادثات تلامس الإنساني والوجودي وصولا للعبثي متخذة من الصورة الملتقطة للدمار والموت في حمص الموطن البصري لسردٍ سيبدو غير متجانس مع القول حينا وملتحم به أحياناً، ومفترق عنه أحياناً أخرى، ليأخذ التوثيق للموت البطيء معنى جديداً حين تتساءل الصورة عن جدوى البقاء وغاية الخلاص، حاملة هذا التبادل الحواري إلى لحظات تضاده مع الواقع في عبثية شعرية مؤلمة. عندئذ ستبدو الصورة الملتقطة للمكان والزمان تستكمل الفراغات التي تُركت غير محكية، صانعة بذلك مفارقاتها التراجيدية لتوظيفها داخل صورة تمعن في تكثيف الإيجاز.
شكّلت الصورة والمحادثات وحدة متكاملة ذهبت بالعمل السينمائي نحو نهاية ملهمة لبداية جديدة أتت مع تذكير صانع الفيلم شريكته بحلول الذكرى الأولى للقائهما عبر الانترنت في ليلة عيد الميلاد المجيد. وسيغلق الاثنان فيلمهما على مشهد لحمص العطشى المحاصرة في يوم ثلجي بارد، وأهلها يملؤون أوعية الطعام بالثلج المتساقط من السماء، بينما صوت أسامة محمد يسأل شريكته الكردية وئام بدرخان عن المقابل الكردي للكلمات العربية، في ما بدت رغبة مستجدة متأخرة للتعرف على مكون من مكونات وطنه.
نهاية أتت منسجمة مع نبرة فيلم نأى بنفسه عن الخطاب الايديولوجي المباشر، وتجنب السقوط في ميلودراما حاصرته من جميع الجهات. فيلم لم يشأ أن يدخل دهاليز ثورة عرفت ككل ثورات العالم عدم ثبات وتبدلات وانزياحات وتحولات وانشغال بالاصطفاءات والتصنيفات والتصفيات، مفضلاً المرور سريعاً على بداية سرقتها من قبل إسلاميين وجدت بدرخان كاميرتها تلتقطهم وهم يبدؤون بتغيير معالم مدينتها حمص وروح ثورتها الأولى.
وئام بدرخان التي حمل الفيلم اسمها “سيماف” بالكردية، أي “ماء الفضة”، أكملت بحكايتها حكاية أسامة محمد، وصنعت له الخيط الذي أمسك به كسينمائي ، وجد نفسه من منفاه الباريسي يعيد بناء علاقة جديدة بوطنه.
في عصر لهاث الصورة حيث كل فرد مصوّر، وكل هاتف خليوي وسيلة إعلام واتصال، وفي ازدحام الموت القادم من كل صوب ترتحل وئام بدرخان كماء من الفضة بين التفاصيل التي تتشبث بالحياة وتبحث عنها، ترصد أحلامها وخيباتها وترفض أن تنسحب ضمن ضجيج الموت لتسجل بتروٍ صورة تحتفي بالأمل. نبشت كاميرتها في تفاصيل الموت السوري لتجعل من رحلتها مع ذلك الطفل القابض على الحياة وسط الموت والجوع أو من توثيقها للشظايا التي أصابت جسدها أو من حلمها، فيلماً ناجزاً تغمر الرهافة مشاهده ويورطه إخلاص الصورة المطلق فيه للإنسان.
“ماء الفضة” الذي ترشحُ من أسلوبيته سينما جان لوك غودار الصارمة في مواقفها الراديكالية وعلاقتها التجريبية بالصورة والمونتاج، يحيل أيضا إلى سينما تيرانس مالك بنزوعها إلى الملحمي في العرض، والفلسفي في التأملات والتوظيف الخاص للعنصر الجمالي والموسيقي من أجل خلق علاقة مع المشاهد مفتوحة القراءات.
إنه فيلم أراده صنّاعه تقديم “قصيدة” موجعة منحازة لبراءة ثورة كانت بعدُ في بداياتها، فانطلق منها ليحكي عن رحلة شخصية، أتمّت دائرتها الكاملة، من سينمائي معارض في وطنه، إلى منفي خارج الوطن، ومن ثم للعودة إلى السينمائي برؤية عن سورية باتت الآن أكثر اكتمالا.
مجلة اوكسجين الثقافية
رندة الرهونجي
إعلامية وناقدة سينمائية من سورية


أخر المقالات

منكم وإليكم