الموسيقى الأندلسية في فترة الحكم المسيحي (عصر ما بعد سقوط الأندلس)
عند الحديث عن الموسيقى الأندلسية، يركز الكثيرون على عصر ازدهارها في ظل الحكم الإسلامي في الأندلس (من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر). إلا أن مصير هذا التراث الموسيقي الفريد بعد سقوط الممالك الإسلامية (بسقوط غرناطة عام 1492) وبدء الحكم المسيحي للمنطقة (المعروف باسم “عصر الموريسكيين” ثم الطرد اللاحق) هو فصل مهم ومعقد في تاريخ الثقافة المتوسطية. لقد تحولت الموسيقى الأندلسية من موسيقى البلاط والحضارة المهيمنة إلى تراث تحمله أقلية مضطهدة (الموريسكيون)، ثم انتقلت لتؤثر في التقاليد الموسيقية المسيحية الإسبانية، وتستقر في شمال إفريقيا حيث وجدت موطئ قدم جديد لها.1. الفترة الانتقالية: الموريسكيون كحاملين للتراث (1492 – 1609)بعد سقوط غرناطة، سمح للمسلمين المتبقين (الموريسكيين) بالبقاء مع بعض الحريات الثقافية لفترة محدودة. في هذه الفترة:· الحفاظ السري: أصبحت الموسيقى الأندلسية تُمارس في الخفاء داخل البيوت الموريسكية، كجزء من الهوية المهددة وأداة للحفاظ على الذاكرة الجماعية. تحولت من فن علني إلى فن حميمي.· استمرار النوبة: حافظ الموريسكيون على نظام النوبة (الذي هو عبارة عن سويت موسيقي يتألف من حركات وإيقاعات محددة مرتبة ترتيبًا معينًا) ولكن على نطاق ضيق.· التنكر والاندماج الظاهري: هناك أدلة على أن بعض الموسيقيين الموريسكيين اضطروا لتقديم فنهم في المناسبات المسيحية أو بتزيٍّ مسيحي، مما أدى إلى بداية تداخل غير معلن بين التقنيات الموسيقية.2. التأثير على الموسيقى المسيحية الإسبانيةرغم سياسة القمع الديني والثقافي، لم يستطع الحكام المسيحيون الجدد عزل أنفسهم كليًا عن التأثير الثقافي الأندلسي الغني الذي دام ثمانية قرون:· الآلات الموسيقية: دخلت آلات مثل العود (الذي أصبح Laúd الإسباني)، الربابة (أصل الكمان المعترف به من قبل العديد من المؤرخين)، الناي، الطبل (Atabal)، الدف (Pandereta) بقوة إلى التخت الموسيقي الإسباني، خاصة في الموسيقى الشعبية.· القوالب والأشكال: ظهرت أشغن شعبية إسبانية مثل الخاباتا (Jácara) والفاندانغو (Fandango) التي يحمل إيقاعها وتركيبها اللحني بصمة واضحة للموسيقى الأندلسية. حتى أن بعض الباحثين يرون في الفلامنكو المتأخر (الذي ظهر في القرن الثامن عشر) جذورًا موريسكية وأندلسية عميقة، خاصة في الغناء العميق (Cante Jondo).· الموسيقى الدينية: بعض الترانيم في كاتدرائيات إشبيلية وطليطلة تحمل تقاسيم وانزياحات لحنية تذكر بالمقامات الشرقية، مما يشير إلى تأثير الموسيقيين الموريسكيين أو المتحولين الذين عملوا فيها.3. نقطة التحول: طرد الموريسكيين (1609-1614)كان قرار طرد الموريسكيين من إسبانيا ضربة قاضية للموسيقى الأندلسية في موطنها الأصلي:· انقطاع شبه تام: اختفت الحلقة الأخيرة من الناقلين المباشرين للتراث الموسيقي الأندلسي الكلاسيكي من شبه الجزيرة الإيبيرية.· الهجرة والانتشار: هاجر معظم الموريسكيين إلى شمال إفريقيا، حاملين معهم مخطوطاتهم وآلاتهم الموسيقية وذكرياتهم الغنائية. هنا، وجد التراث الأندلسي بيئة حاضنة جديدة، واندمج مع التقاليد المحلية المغاربية ليتطور إلى ما نعرفه اليوم باسم الموسيقى الأندلسية المغاربية في الجزائر (طرب الغرناطي، صنعة الجزائر)، المغرب (موسيقى الآلة، الطرب الأندلسي في فاس، تطوان، شفشاون)، تونس (المألوف التونسي)، وليبيا.· بقايا في إسبانيا: بقيت بعض العناصر الممزوجة في الفولكلور المحلي لمناطق مثل أندلوسيا ومرسية وأراغون، خاصة في الموسيقى الشعبية والاحتفالات.4. البحث والاستعادة الحديثةفي القرنين التاسع عشر والعشرين، بدأ اهتمام أكاديمي وإحيائي بالموسيقى الأندلسية:· البحث التاريخي: قام مستشرقون وموسيقيون إسبان مثل خوليان ريبيرا وفيليبي بيدريل بدراسة المخطوطات العربية وبقايا التقاليد الشعبية لإعادة بناء تاريخ هذا الفن.· الحركات الإحيائية: في المغرب العربي، تم تنظيم وتدوين النوبات الأندلسية بشكل منهجي. وفي إسبانيا، ظهرت فرق مثل Eduardo Paniagua وMúsica Antigua تحاول إعادة إحياء الموسيقى الأندلسية كما كانت في العصور الوسطى، اعتمادًا على المخطوطات والتقاليد المغاربية الحية.· الفلامنكو كجسر: يُنظر اليوم إلى الفلامنكو كحلقة وصل حية بين الثقافة الإسبانية والجذور الأندلسية، حيث تتقاطع التأثيرات الغجرية والموريسكية والأندلسية والشرقية.الخاتمةلم تمت الموسيقى الأندلسية بسقوط غرناطة، بل دخلت مرحلة تحول صعبة وحاسمة تحت الحكم المسيحي. لقد تحولت من فن رسمي إلى تراث مقاوم ثم إلى عنصر منصهر في الفسيفساء الموسيقية الإسبانية، قبل أن تجد ملاذها الأخير وبيئتها الحافظة في المغرب العربي. تظهر هذه الرحلة قدرة الموسيقى على تجاوز الحدود السياسية والدينية، وتشكل شاهدًا على حيوية التراث الأندلسي الذي لا يزال يُسمع صداه من مهرجانات فاس إلى مسارح قرطبة، حاملاً معه حنينًا إلى زمن التعايش والجمال المشترك.مصادر اضافية للبحث :· بالعربية: كتاب “الموسيقى الأندلسية المغربية” لعبد العزيز ابن عبد الجليل.· بالإسبانية: أعمال المؤرخ والموسيقي خوليان ريبيرا (Julián Ribera) خاصة كتابه “La música de las Cantigas”.· بالإنجليزية: كتاب “Music in Medieval Iberia” تحرير Tess Knighton.· الاستماع: تسجيلات فرقة المعهد الموسيقي لمدينة فاس (المغرب)، أو فرقة Música Antigua لإدواردو بانياغوا (إسبانيا).
الموسيقا شغف الكون
#مجلة ايليت فوتو ارت


