كليمنس ي. زيتس يدافع عن الصمت في عالم لا يكفُّ عن الكلام
الجمعة، 26 ديسمبر، 2025

وسائل التواصل خلقت ضغطا دائما للمشاركة الفورية
وُلد كليمنس ي. زيتس (Clemens J. Setz) عام 1982 في مدينة غراتس النمساوية، ويُعدّ اليوم واحدا من أكثر الأصوات الأدبية فرادة في الأدب الألماني المعاصر.
هو شاعر وروائي وكاتب مقالات، يكتب من منطقة توتر دائمة بين الحساسية الفكرية والخيال الغريب، وبين السخرية الداكنة والقلق الإنساني العميق. منذ بداياته، انشغلت أعماله بالعزلة، والهشاشة النفسية، والعنف الكامن في الحياة الحديثة، لا بوصفها موضوعات نظرية، بل كخبرات معيشة تتسلل إلى اللغة وتعيد تشكيلها من الداخل.
من أشهر أعماله الروائية رواية Indigo، وكذلك Die Stunde zwischen Frau und Gitarre (الساعة بين المرأة والغيتار) التي نال عنها جائزة الكتاب الألماني عام 2018، مؤكدا مكانته ككاتب لا يقدّم سردا تقليديا بقدر ما يبني عوالم مقلقة ومفتوحة على التأويل.
أما في الشعر فيمزج زيتس بين لغة قريبة من النثر وقوافٍ متعمّدة، مستفيدا من السريالية والفكاهة السوداء كوسيلتين لرؤية الواقع من زاوية غير مطمئنة. إلى جانب ذلك، نشر دواوين شعرية عديدة ونصوصا نقدية ويوميات، وفي عام 2023 اختير شاعرا رسميا للنمسا (Poeta Laureatus)، في اعتراف بدوره الثقافي وبقدرته على التقاط قلق العصر وتحويله إلى أدب كثيف وعميق.
أهمية زيتس لا تكمن في منجزه الأدبي وحده، بل أيضا في رؤيته النقدية لموقع الكاتب في المشهد الإعلامي المعاصر. ففي زمن لم يعد فيه الكاتب محصورا في عزلة الكتابة، بل مدفوعا إلى صخب المنصات والحوارات العامة، يطرح زيتس أسئلة جوهرية حول معنى الحضور، وحدود الكلام، ومسؤولية الصمت.
لم يعد الكاتب اليوم يُقرأ فقط من خلال كتبه، بل من خلال مواقفه، وتغريداته، وتصريحاته السريعة. يُطلب منه، صراحة أو ضمنا، أن يكون “معلّقا على كل شيء”: السياسة، الحروب، الأزمات الصحية، النزاعات الأخلاقية، وحتى التفاصيل اليومية العابرة.
يرى زيتس هذا خطرا حقيقيا، ليس فقط على الكاتب كشخص، بل على الكتابة نفسها. فالقدرة على الصياغة اللغوية، وهي جوهر العمل الأدبي، تُفهم في المجال العام بوصفها دليلا على المعرفة أو الخبرة، في حين أنها قد تكون مجرد مهارة تعبير. هذا الخلط بين البلاغة والفهم، بين الجملة اللامعة والرؤية العميقة، يهدد بتآكل المصداقية، وباختزال الكاتب إلى صوت آخر في جوقة الآراء المتشابهة.
من هذه الرؤية يقترح زيتس تصورا مختلفا للحضور العام للكاتب. ليس المطلوب أن يكون حاضرا في كل مكان، بل أن يكون كلامه ذا ثقل حين يُقال. الندرة، في زمن الفائض، تتحول إلى قيمة أخلاقية وجمالية. والمساهمة القليلة المتأنية قد تكون أعمق أثرا من سيل من الآراء السريعة. الكاتبُ، في هذا المعنى، ليس مطالبا بملاحقة اللحظة، بل بتأمّلها، وربما بالتأخر عنها قليلا، حتى يرى ما لا يُرى في العجلة.
في النهاية، لا يقدّم كليمنس ي. زيتس نموذج الكاتب الواعظ ولا الكاتب المنعزل في برجه العاجي. ما يقترحه هو توازنٌ هشّ ودقيق بين المشاركة والصمت، بين الحضور والانسحاب، بين المسؤولية والحرية. وفي عالم يضجّ بالكلام، قد تكون أعظم مساهمة يقدمها الأدب هي الدفاع عن العمقِ، وعن حقِّ السؤال في أن يظل مفتوحا. هكذا، لا يصبح الكاتب شاهدا على العصر فحسب، بل حارسا للغة من الاستهلاك، وللفكر من الذوبان في الضجيج.عبدالرحمن عفيف قاص ومترجم سوري، مقيم في ألمانيا
صحيفة العرب
مجلة ايليت فوتو ارت


