فيلم أبناء السماء Children of Heaven
الكاتب رحيم الحلي
ليس من السهل على فيلمٍ صغيرٍ في فكرته، بسيط في أدواته، أن يشقّ طريقه إلى ذاكرة السينما العالمية، لكن فيلم Children of Heaven للمخرج الإيراني مجيد مجيدي فعل ذلك بهدوءٍ وبقوةٍ .
صدر الفيلم عام 1997، لكنه ظلّ حياً في الوجدان السينمائي، بوصفه أحد أنقى الأفلام التي صنعتها السينما الإيرانية، وأكثرها قدرة على مخاطبة الإنسان أينما كان.
يحمل الفيلم عنوانه الفارسي Bacheha-ye Aseman، أي أبناء السماء، وهي ترجمة أكثر دقة من عنوانه الإنجليزي الشائع Children of Heaven. فمجيدي لم يقصد «الجنة» بمعناها الديني الصريح، بل السماء بوصفها فضاءً للبراءة والصفاء والعلو الأخلاقي. وهذا المعنى ينسكب مباشرة على بطلي الفيلم، الطفلين الشقيقين علي وزهره، اللذين يبدوان ككائنين صغيرين يعيشان على هامش العالم، لكنهما يمتلكان نقاءً داخلياً يضعهما في مرتبة أخلاقية أعلى من عالم الكبار.
أجمع النقاد في أوروبا وأمريكا واليابان على أن قوة الفيلم لا تكمن في قصته بحد ذاتها، بل في كيفية سردها. فالمحور الدرامي بسيط إلى حد الدهشة: حذاء مفقود. حذاء زهره الوردي، الذي يفقده علي في طريق عودته من الإسكافي، يتحول إلى قلب الفيلم النابض. هذا الحذاء، الذي يظهر مرات قليلة، يصبح رمزاً للفقر، والذنب، والمسؤولية، والتكافل، بل ويتحول إلى اختبار أخلاقي يضع الطفلين أمام اختيارات تفوق عمرهما.
تدور الأحداث داخل عائلة معدمة تعيش على هامش طهران ، أب كادح يؤدي دوره أمير ناجي بصدقٍ موجع، أم منهكة بعد ولادة طفلها الثالث، وطفلان لا يملكان سوى زوج أحذية واحد يتقاسمانه بذكاء طفولي مؤلم. زهره تذهب إلى مدرستها صباحاً، وعلي يركض بعد الظهر بالحذاء ذاته إلى مدرسته، في سباقٍ يومي مع الوقت والخجل والفقر.
يكتب بعض النقاد أن مجيدي أعاد تعريف مفهوم البطولة في السينما، فالبطل هنا لا يحمل سلاحاً، ولا ينتصر في معركة، بل يركض… فقط يركض. مشهد السباق في نهاية الفيلم، الذي يشارك فيه علي على أمل الفوز بالحذاء الثالث كجائزة، يُعدّ من أكثر النهايات إيلاماً في تاريخ السينما المعاصرة. فحين يحقق الطفل المركز الأول بدل الثالث، لا نرى فرح النصر، بل خيبة أمل ثقيلة، صامتة، تشبه كسر القلب.
تميّز الفيلم بأداءٍ استثنائي للأطفال. مير فرخ هاشميان في دور علي، وبهاره صديقي في دور زهره ، قدّما تمثيلاً خالياً من أي افتعال، حتى أن بعض النقاد تساءلوا إن كانا يمثلان أصلاً أم يعيشان حياتهما أمام الكاميرا. هذا الصدق التمثيلي كان أحد أسباب تدريس سيناريو الفيلم لاحقاً في المدارس الثانوية في اليابان، وفي مدارس ولاية نيو مكسيكو الأمريكية، بوصفه نموذجاً للسينما الواقعية البسيطة والعميقة في آنٍ واحد.
رغم أن الفيلم صُوّر في ظل الجمهورية الإسلامية، وظهرت فيه بعض رموزها من حجاب ومراسم دينية، إلا أن مجيدي نجح في تمرير نقد اجتماعي حاد للفوارق الطبقية دون خطاب سياسي مباشر. لقد اختار أن يقول كل شيء من خلال الحذاء، ومن خلال نظرات الأطفال، ومن خلال الصمت الذي يفوق الكلام بلاغة.
حين وصل الفيلم إلى ترشيحات جائزة الأوسكار عام 1998، كأول فيلم إيراني يحقق ذلك، لم يكن مجرد إنجاز سينمائي، بل اعتراف عالمي بقدرة السينما الإيرانية على تقديم لوحة إنسانية خالصة، بلا شعارات، وبلا بهرجة تقنية. فيلم صُنع بأدوات بسيطة، لكنه ترك أثراً لا يمحى.
أبناء السماء ليس فيلماً يُشاهد مرة واحدة، بل تجربة تعود لتطارد المشاهد كلما رأى طفلًا يركض، أو حذاءً مهترئاً، أو دمعةً حبيسة. إنه تذكير نادر بأن السينما، حين تكون صادقة، تستطيع أن تلمس السماء… دون أن تغادر الأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اضغط على الرابط التالي لمشاهدة الفيلم
https://ok.ru/video/1317166844656
سينما العالم
مجلة ايليت فوتو ارت

