يأخذنا التشكيلي المصري إبراهيم البريدي في رحلة بصرية ممتعة نحو مصر وأم كلثوم، في معرض”أغنية في لوحة- ثوما مع هيما”..- تقديم: حنان مبروك.
“أغنية في لوحة”.. هكذا تبدو مصر وأم كلثوم مع إبراهيم البريدي
حنان مبروك
دعوة إلى البهجة مع الولد الطيب هيما
يأخذنا التشكيلي المصري إبراهيم البريدي في رحلة بصرية ممتعة نحو مصر وأم كلثوم، في معرض “أغنية في لوحة – ثوما مع هيما”، والذي تكون فيه الموسيقى وأحب الأغنيات إلى قلب الرسام مدخلا لفهم البعض من رؤية الفنان للمجتمع المصري وللفن العربي، ولتأمل نموذج عن علاقة المصريين بأم كلثوم، كل ذلك دون أن يفقد العمل التشكيلي قدرته على الإبهار باللون والشكل.
في كتابه “أم كلثوم كما لم يعرفها أحد” كتب الصحافي الشهير محمود عوض أن “الفن يرفض التكرار، حتى ولو طلبه أهل الهوى، والفن لا يقبل الوساطة حتى ولو حاولها أهل النفوذ.. كل الفنون هكذا… إنها علاقة مباشرة تجعل الفنان دائما أصدق ممثل للجمهور، فالفنان الصادق دائما هو الذي يتقمص الصفات البارزة لشعبه. من الذي يفوق في أميركيته مثلا سبنسر تراسي أو هنري فوندا أو هنري ميللر؟ من الذي يفوق في مصريته طه حسين أو العقاد أو أم كلثوم؟”
لكنه تابع “كلهم يحملون في أعمالهم بصمات شعوبهم واضحة، صفات مجتمعهم كاملة، اتفق أو اختلف مع هذه الصفات كما تشاء ولكنهم في النهاية رمز وتلخيص لها.”
أستعيد هذه الكلمات وأنا أتأمل بعض لوحات الفنان المصري، رسام الكاريكاتير الشهير إبراهيم البريدي، الذي اختار أن يحيي الذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق أم كلثوم بلمسته الخاصة، عبر معرض أطلق عليه عنوان “أغنية في لوحة – ثوما مع هيما”، وبالفعل جاءت لوحاته أشبه بأغنيات منفصلة لثوما (أم كلثوم كما يحب أن يدللها المصريون)، تستعيد بعضا من روحها، من حياتها، من حضورها، ومن كينونتها التي كانت انعكاسا للشعب المصري بكامله، لكنها لا تستعيدها منفصلة عن المجتمع وإنما متقاطعة مع كل مكوناته.
كذلك إبراهيم البريدي، ذلك الفنان العصامي الذي لم يتتلمذ على يد أشهر الفنانين المصريين وإنما عاشرهم وعرفهم عن قرب وتعلم منهم وتعلموا منه، ذلك المواطن الذي يشبه كثيرين، يحب بلاده ويحب الكثير من رموزها ويحاول أن يبعث فيهم الحياة من جديد عبر ألوانه وخاماته وتقنياته الفنية التي تميزه عن غيره من الفاعلين في الفن التشكيلي المصري.
◄ غالبية الأعمال تنحاز إلى أم كلثوم بطريقة مبهجة تحمل الطابع البسيط للشخصية وروحها بعيدا عن الرسم الأكاديمي البحت
◄ إبراهيم البريدي يتميز بأسلوب فريد يجمع بين الثقافة الشعبية والبيئة المصرية، ويتجاوز عمله الفني حدود الرسم التقليدي
◄ فن المرج خيط، تقنية أبدع فيها البريدي
يتميز بأسلوب فريد يجمع بين الثقافة الشعبية والبيئة المصرية، ويتجاوز عمله الفني حدود الرسم التقليدي، إذ ابتكر تقنية فنية أسماها “فن المرج خيط” وتعتمد على استخدام قصاصات القماش والخيوط الملونة بدلاً من الألوان فقط، مع إبراز الخيوط في العمل الفني بدلاً من إخفائها كحال الخيامية، ما يمنح اللوحة بعدا ماديا وحركيا يخالف التصوير العادي.
ويوظف البريدي تقنيته المميزة في أحدث معارضه الذي يحمل عنوان “أغنية في لوحة – ثوما مع هيما”، وهو معرض فن بصري معاصر يستضيفه غاليري نوت بالزمالك في الفترة الممتدة بين 9 و23 نوفمبر الجاري ويضم عددا من اللوحات التي نفذها بأسلوب المرج خيط، ويحمل بعضها عناوين أغنيات سيدة الغناء العربي.
ومن الأغاني التي أعاد تصورها الفنان وأطلق أسماءها على لوحاته: “أعطني الناي وغن”، “طيري يا طيارة طيري”، “عصفور طل من الشباك”، “طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة”، “ساعة ما بشوفك جنبي”، “بيانولا والأبانضة وحركات صلاح جاهين”، “العتبة جزاز”، “على نور العين مسيلي يا قمر”، “عدي البحر عدي لعروسته جاي ودي الناس الزينة لم الحبايب”، “البنت الشلبية”، “ومن الشباك لرميلك حالي”، “غاب القمر يا بن عمي يالا روحني”، “أيوه يا واد وعرفت تنقي”، “يا ليل يا عين”، “بلياتشو”، “عصفور محمد منير”.
والملاحظ بين هذه الأسماء القليلة التي تعد جزءا صغيرا من المعرض أن الفنان اختار أسماء لأغان شهيرة، ليس فقط لأم كلثوم وإنما بعضها أغان فلكلورية شعبية تحكي الكثير عن المجتمع المصري وتركيبته وتنوعه، وعن الثقافات المختلفة فوق الأرض الواحدة التي تكشفها كلمات الأغنيات الشعبية، وهناك أيضا لوحات أخرى دون كتابة، كل هؤلاء يجتمعون مع “ثوما”، بريشة البريدي.
“دعوة للبهجة مع الولد الطيب هيما”، هكذا وصف الفنان معرضه، وهو حقيقة دعوة إلى البهجة نتلمسها منذ النظرة الخاطفة الأولى للوحات المعرض التي جاءت بألوان وشخوص وكلمات مبهجة.
وقبل أيام قليلة من انطلاق المعرض والاستقرار على الاختيار الأخير لكامل عناصره وملامحه، وأولها العنوان، كتب البريدي “سيكون اسم معرضي القادم تحت عنوان ‘أغنية في لوحة’ أو ‘أم كلثوم وهيما’، محتار بين العنوانين أيهما أفضل وتقريبا غالبية الأعمال تنحاز إلى أم كلثوم بطريقة مبهجة تحمل الطابع البسيط للشخصية وروحها بعيدا عن الرسم الأكاديمي البحت، بل بأسلوب تلقائي بسيط، مع سماع الأغنية تمت إضافة أغان شعبية مرتبطة بالتراث أو مرتبطة بالفرح تقريبا.”
وقال “كل لوحة كنت سعيدا بها وأنا أرسمها، ورغم تعدد الشخصية المرسومة إلا أنك عندما تنظر إليها لثوان ستكتشف أنها مختلفة عن الأخرى، وقد تغني معها وتدندن معها، لكن في النهاية سوف تكون لحظة ابتسامة.”
واعتبر أن “مكان العرض غاليري نوت بالزمالك يحمل بصمة خاصة من الفن والإبداع، وتعاون صادق من شخصية الإدارة من مدام مها فخرالدين التي تحمل طاقة إيجابية لأي فنان مبدع حقيقي، فهي أيضا تحمل طاقة من البهجة والابتسامة لمكان خاص يحمل روح أخيها الحاضر الغائب الفنان مراد فخرالدين، فقد أصرت على أن تكمل أحلام مراد بأن يكون غاليري نوت امتدادا للفن وخلق جيل للمستقبل يحمل روح الفن الحقيقي.”
يذكر أن إبراهيم البريدي فنان تشكيلي ورسام كاريكاتير، حائز على جائزة الشارقة الدولية في الأدب ورسوم الطفل الاحترافي عام 2014 عن قصة “الأولاد والنخلة”، وجائزة الدولة التشجيعية في الفنون عن رائعة صلاح جاهين “الليلة الكبيرة” عام 2017.
نظم وشارك في عشرات المعارض منذ احترافه الرسم على قصاصات القماش عام 2003، ومنها “حلاوتك يا بريدي” و”البريدي نونو” عن القطط البلدي الجميلة، و”نفسي أرجع طفل صغير” و”منتهى الحب” و”أغنية في لوحة” و”قصاقيص” و”رقصة التنورة” و”الأراجوز بطعم البيوت” و”شارلي شابلن في مصر”، الذي أعطاه دفعة كبيرة بعد عرضه في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وأيضاً “الليلة الكبيرة” بأجزائه الخمسة التي ضمت أكثر من 120 لوحة، وآخرها “خلي بالك من زوزو” عن سعاد حسني.
ولا يتردد الفنان في الإعلان عن تشابك الذاتي مع الغيري في كل معارضه، حيث يفصح عن حضوره، حضور ذاته الشخصية والفنية في التجربة التشكيلية، ونرى في بعضها إفصاحا واضحا منذ اختياره عنوان المعرض، حيث نلحظ ميله إلى اختيار عناوين تُشعر المتلقي بأنه أمام رحلة لاكتشاف الفنان وعلاقته بالعالم الذي يعبر عنه، ورؤيته له.
وهو في هذا المعرض اختار أن يجسد علاقته بأم كلثوم، التي هي نموذج مصغر لعلاقة الكثير من المصريين بها، لكنها لم تحضر وحدها، بل حضرت مصحوبة بشخصيات من المجتمع المصري بكل مميزاتها من أزياء وأشكال، ومطعمة ببعض الشخصيات الشهيرة عربيا وعالميا، ما يجعل معرضه أشبه بقراءة بصرية ممتعة لمرحلة مهمة من تاريخ مصر والمنطقة العربية، مدخلها الموسيقى والفن.
إنها حقيقة تجربة تشكيلية مميزة، مختلفة عن المألوف، تجربة شديدة الثراء في التعامل مع مادة الخيش والملابس القديمة، التي يحولها إبراهيم إلى أعمال فنية مبهجة وشديدة الثراء الفني، وهو أسلوب يميزه منذ عقود، حيث دأب على اختيار موضوع يعيد تصوره على أسطح لوحاته، جامعا بين الكولاج والكاريكاتير والألوان.
وهذه التقنية التي يسميها “فن المرج خيط”، أعجبت الكثير من النقاد وأسالت حبر أقلامهم، من بينهم الناقد فينوس فؤاد الذي وصفه في مقالة له نشرها منذ أكثر من عقد من الزمن بأنه “الفنان التلقائي الباحث عن البهجة”، وكتب عنه: “إبراهيم البريدي فنان من نوع خاص، فنان بالفطرة، ساعدته نشأته فى مدينة طنطا على الغوص في البيئة المصرية بل والتشرب بالبيئة الريفية والشعبية بصورة واضحة، فهو فنان لم يدرس الفن ولكنه عاصر رواده وعمالقته وتعلم منهم الإيمان بالرسالة وتحديد الهدف، وأخلص في المحاولة لشق طريق جديد يميزه عنهم دون منافسة أو نكران لمجهودهم معه.”
حنان مبروك
صحافية تونسية