القراءة في كتاب (الحداثة عبر التاريخ): مع الاستاذ حنا عبود
#حنا_عبود
بيد أن أروع ما خطه اسبينوزا فائدة للحداثة الأدبية ليس فقط تلك الحرية التي نادى بها، بل أيضا تلك العبودية التي يخضع لها الإنسان قسرا، بحكم تكوينه الفيزيولوجي، وبحكم العلل الظرفية التي تحيطه. إن الإنسان رهينة الانفعالات النابعة من طبيعته: فرح، حزن، اشتهاء، رغبة، عشق، اشمئزاز، إكبار، إعجاب، احتقار. . . إلى آخر ما هنالك من تصنيفات. وهذه الانفعالات مأساوية، تستعبد الإنسان، على الرغم من أنها عابرة، بل إن عبوديتها سبب مأساويتها، فما إن يستسلم الإنسان لانفعال حتى يجد نفسه، بعد مدة في الطرف المقابل لهذا الانفعال. ترى كيف تجري الأمور؟ وكيف يخضع أحيانا لانفعالين غير منسجمين في آن معا، تجاه شيء واحد؟. . . حل مالبرانش هذه القضية بالقول إن الانفعالات المتغيرة مزعجة ومؤلمة لأنها مرتبطة بالمتغير الفاني في هذا العالم، أما تلك التي تتجه نحو الثابت الخالد، فإنها انفعالات ممتعة رائعة. فالاتجاه صوب المسيح، رمز الفداء والخلاص، لن يعود إلا بانفعالات ثابتة رضية مرضية بينما الاتجاه نحو الأشياء والأمور الأرضية لن يعود إلا بالهم والغم والكآبة.
أما اسبينوزا فوقع في ورطة، إذ كيف يخرج من جدلية الانفعالات وتأثيرها وهو القول إن جوهر الله هو جوهر الطبيعة، وجوهر الروح هو جوهر الجسد؟ ترى هل يقول بما قاله مالبرانش فيجعل الانفعالات على قسمين: ربانية تتعلق بالخلاص والانعتاق، ودنيوية تتعلق بالخطيئة الأصلية التي اقترفها الإنسان؟
أرجع اسبينوزا هذه الانفعالات إلى الحرية، فالأفعال التي تصدر عن إنسان حر هي التي تثير الانفعالات. ولو أنها تصدر عن إنسان مقيد لما أثارت شيئا من الانفعال.
فأنت لا تثار بأفعال تتوقعها، لا خيار لمن تصدر عنه، بل تثار لأن فاعلها قد اختار هذا المنحى بملء إرادته. وهكذا تتولد المأساة من الحرية نفسها. وهذه فكرة – كما قلنا – لعبت دورا بعيدا في الأدب الحديث، وعلى الأخص في الأدب الوجودي، حيث ارتبط الفعل بالاختيار والاختيار بالحرية والحرية بالمسئولة، والمسئولية بالقلق والقلق ضريبة الحرية وهي ضريبة محتومة، فوجود الإنسان وجود قلق واضطراب ومعاناة.
إن السبيل التي سلكها اسبينوزا في مغادرة الوحدانية تختلف من السبيل التي سلكها ديكارت، لا من حيث الأركان الأساسية، بل من حيث الأسلوب. إن ديكارت يسلك السبيل من الذات إلى الله، ويكتفي بإثبات وجوده، وبكونه العلة الأولى، بينما يسير اسبينوزا في الاتجاه المضاد، فيبدأ من الله، ويجعله جوهر الطبيعة إلى أن ينتهي إلى الذات المتحولة المتغيرة المتقلبة التي تلجأ إلى شتى الانفعالات حرصا على استمرارية وجودها، ولكن الاثنين يلتقيان في النتيجة تماما.
أحدثت الاسبينوزية ضجة شاملة، لم تقتصر على صفوف الفلاسفة واللاهوتيين. وقد عرف خصومه الرابطة التي تربطه بديكارت، فـ “دي فرسيه” يبدأ بدحض أطروحات ديكارت ولا يرى فرقا بينه وبين اسبينوزا الذي يلقبه بالكافر. ولم يكن هجوم “بايل” عليه بأقل من هجوم مالبرانش ولايبنتز، إذ يراه أول من جعل الإلحاد نظاما. لكن بعض الكتاب كانوا يدعون دحض اسبينوزا، في حين كان غرضهم الترويج لمبادئه، مثل “بريدنبورغ” و”بولا نفيلييه” وليس في هذه الكتب – كما يخبرنا مؤرخو الفلسفة – شيء ضد اسبينوزا سوى العنوان لا أكثر.


