معرض”في مرمى البصر” تكوينات فنية عند :غسان مفاضلة.التشكيلي الأردني.- تقديم:أحمد طملية..
“في مرمى البصر”: بين غسان مفاضلة وتكويناته الفنية
احمد طملية
الاردني غسان مفاضلة في معرضه “في مرمى البصر”
في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر افتُتح معرض الفنان التشكيلي غسان مفاضلة “في مرمى البصر” في المركز الثقافي الملكي في عمّان. قوبل المعرض باحتفاء خاص بغسان الإنسان قبل التعرّض له كفنان، إذ أفردت له مجلة “اللويبدة”، التي يترأس تحريرها الكاتب الصحافي باسم سكجها، عددًا خاصًا يعرّف بغسان، افتتحه رئيس التحرير بكلمة جاء فيها: “هو الذي صمّم شعار اللويبدة، وهو الذي كان مناصرًا لها مذ كانت جنينًا في بطن الجبل، وهو الذي نخصّص له عددًا خاصًا يحمل اسمه. هو غسّان مفاضلة الذي لا يترك مساحة متاحة، على مدار عمّان، من دون أن يضع بصمته الفنية المبدعة عليها، من أنفاق وجسور وأدراج. وهو الذي جعل ذلك واقعًا في جرش وعجلون والعقبة، والحبل على الجرّار”.
يرصد سكجها، في كلمته الموجزة، جانبًا ممّا نال غسان، حسب رأيه، من تهميش. يقول: “الفنانون المبدعون الأردنيون مغبونون في بلادهم، ولكنّ الغبن الذي وقع على غسّان أكثر، فهناك أعمال له تُدمَّر أو تُرمى في المستودعات، ومنها العمل العجلوني المطلّ على القلعة. ولكنه يواصل الحفر في الصخر، ويفلّ الحديد صانعًا منه أعمالًا تستأهل الخلود. هو الوحيد الذي صنع من نماذج تماثيل عين غزال الطينية حديدًا ناطقًا، ومن بقايا البيوت الذاهبة إلى الحاويات أثرًا يستأهل الاقتناء، ومن اللاشيء أشياء تفتن العيون وتستحوذ على العقول. مفاضلة مُغرم بالمكان الأردني، فهو الذي درس وخَبِر التاريخ، وتشكّلت في ذهنه أعمال إبداعية وضعها على أرض الواقع، ولو كنتُ وزير ثقافة ليسّرتُ له سبل التجوال في أنحاء البلاد طولًا وعرضًا، في سبيل إعادة تكوين الجغرافيا على شكل فنٍّ حديدي. يسكن صاحبنا اللويبدة، ولكنّ الجبل يسكنه أكثر، فمن بيت إلى بيت ارتحل هناك، وفي كل البيوت والحارات والأزقة كانت له بصماته المبدعة”.
يدعو سكجها الناس إلى زيارة المعرض للتأمّل في الأعمال، وماذا تمثّل في تاريخنا، وكيف يمكن لشخص أن يختصر تاريخًا كاملًا في عمل واحد.
الناقد د. محمد عبيد الله استبق زيارته المعرض برأي اعتبر فيه غسان مفاضلة “فنانًا عالميًا” فيما يقدّم من فتنة بصرية آسرة مثقفة. يتأمّل عبيد الله خطوط الفنان وتكويناته، فراغاته وامتلاءاته، معتبرًا أنها تقدّم درسًا بديعًا في التشكيل. يسأل عبيد الله: هل يطمح غسان لأن يرمّم الأشياء المتروكة لتصير خلقًا وفنًا؟ ويجيب على سؤاله بسؤال: هل ظلّ من يرسم بهذا القدر الرفيع من الجمال؟ يقول: “لأكون دقيقًا، غسان لا يرسم، وإنما يعيش ويتنفّس بالفن”. ويصل إلى نتيجة أنّ تكويناته “لا مثيل لها في الفن العالمي في أيامنا”. ويزيد على ذلك: “غسان ناقد وفنان ومثقف لم يعد له أشباه كثيرون”.
من جانبي، زرتُ المعرض بعد يومين من افتتاحه بعد مكالمة من غسان، شعرتُ من خلالها أن غسان ليس فرِحًا كما توقعت، بل إن صوته يحمل حزنًا دفينًا في داخله، لا ينطق به، لكن يستطيع اللبيب من الصوت أن يفهم. ذهبتُ فورًا إلى المعرض، أقف أمام تكويناته الفنية وتتداعى في ذهني تساؤلات:ما هو الذي في مرمى البصر يا غسان؟
أنت الضامر إلى حدّ الزهد بالدنيا وما فيها، أم لوحاتك الشامخة إلى حدّ السماء؟ما هو الذي في مرمى البصر يا غسان؟
لقد وقفت طويلًا أمام كل لوحة لأُبصر ولم أُبصر، بل أصابتني حالة من عمى البصر. تشدّني اللوحة إليها، أنصاع من دون إرادة مني نحوها، فلا أجد نحوًا، بل مدى… مدى بعيد. وكلما اقتربت من هذا البعد أشعر أنّ ثمة ما هو أبعد.
ما الذي في مرمى البصر يا غسان؟
لقد حسمت أمري ورضيت بما أنا فيه، لماذا تحاول أن توحي لي أن ثمة ما هو أبعد؟
ما الذي في مرمى البصر يا غسان؟
لعلّ اللوحة تجيب وليس أنت: خيال… خيال… خيال…
داهمني هذا السؤال، وراح يدفع بي إلى ضرورة السؤال عن غسان الإنسان. شعرت أنه لا يمكن الفصل بين غسان وأعماله، فهي جزء منه، وهو جزء منها، ولعلّ هذا ما يتفرد به، ليس على الصعيد المحلي والعربي، بل أجازف بالقول على الصعيد العالمي. وبالتالي، لا يمكن أن تتحدّث عن أعمال غسان بمعزل عن شخص غسان، ولا بد أن يستوقفك تناقض: غسان ضامر، لوحاته شامخة.
“تتجاوز أعمال المعرض الشأن الفني لتصل إلى الشأن الشخصي، أي أن غسان لا يقدّم تكوينات وارتسامات بقدر ما يقدّم معنى وجوديًا يتعلق بعلاقة الإنسان مع نفسه”
سألت غسان عن مسعاه وتوجهاته في أعمال هذا المعرض. قال: “لا أسعى في أعمال هذا المعرض إلى تقليد الأثر في محيطه البيئي، أو محاكاة ارتساماته وتشكلاته على هذا النحو أو ذاك، بقدر ما أسعى إلى بناء أثرٍ على أثر. فالفن لا يغدو، وفق هذا المسعى، سوى ذلك الإنشاء الذي لا يكفّ عن تشييد بنيانه من تراكمات الأثر وارتساماته لتصبح في مرمى البصر، وعلى مرأى من الجميع”.
شعرتُ، من إجابته، أنه يحاول، من جديد، أن يفصل ما بينه وبين اللوحة، كأنه هو الفنان وهي اللوحة، كأنه هو المبتكر واللوحة وسيلة، متجاهلًا ما هو أبعد من ذلك في علاقته باللوحة. تذكّرت، وأنا أستمع له، ذات مساء حزين، حين انتابتني رغبة جامحة للإجهاش في البكاء. بكيتُ إلى الدرجة التي استوقفت من حولي، لأجد من يسألني عن سبب البكاء. قلت إن هناك أسبابًا كثيرة، ولم أذكر السبب الحقيقي. وغسان لا يقول ما يجول في خاطره عن معرضه، فالأمر لا يتصل فقط بالإنشاء الذي يدّعي أنه يريد أن يواصل تشييد بنيانه ليصبح في مرمى البصر، بل يصل، حسب حدسي، إلى مواصلة تشييد بنيان غسان نفسه، أو مواصلة ترميم غسان الإنسان حتى يبقى في أبهى حضور.
بهذا المعنى، تتجاوز أعمال المعرض الشأن الفني لتصل إلى الشأن الشخصي، أي أن غسان لا يقدّم تكوينات وارتسامات بقدر ما يقدّم معنى وجوديًا يتعلق بعلاقة الإنسان مع نفسه، ومع محيطه، ومع المكان. فمن يقف أمام لوحة من لوحاته يذهب خياله إلى البعيد، قد يبكي، وقد يتحايل على الإجابة إذا سأله أحد عن سبب البكاء.
لكن، إذا كان الفنان يناور في الإجابة، فإن اللوحة واضحة وصادقة في طرح رؤيتها: كيف نحن، وكيف يمكن أن نكون. المكان هو ما يتبقى، أما الزمان فإلى زوال. الأثر هو ما يتبقى: لماذا نتجاهل الأثر ونمعن الاهتمام في السراب؟ كيف يمكن أن تلامس الجباه السماء من دون أن تُحلّق الروح؟ ضامر هو، لوحته شامخة. لا يليق به الذهاب، بل الحضور. لا يأبه للزمان بمقدار ما يحنّ للمكان: المضيّ عبثًا أم الرسوخ؟
غسان نحات ورسام وناقد تشكيلي وصحافي، من مواليد مدينة جرش عام 1964، درس الرياضيات في الجامعة الأردنية وتخرج منها؛ لكنه عمل في مجال الصحافة والنقد الفني والفن التشكيلي والنحت. انخرط بالفن وتعلّم من الرياضيات. أنجز مشروع “الإنسان والمكان”، وهو عبارة عن أعمال نحتية وإنشائية على مداخل عدد من المحافظات الأردنية ضمن مشروع “مدينة الثقافة الأردنية” برعاية وزارة الثقافة. أقام العديد من المعارض الفنية، شارك في معارض وورش عمل محلية وعربية ودولية، صمّم ونفّذ العديد من الأعمال النحتية الميدانية والجداريات الفنية، إضافة إلى مشاركته بمحاضرات وندوات تُعنى بالفن التشكيلي والثقافة البصرية في العديد من الجامعات والمؤسسات الثقافية والفنية.
صدر له كتاب نقدي بعنوان “خزائن المرئي – مشهد نقدي في التشكيل العربي المعاصر” عام 2018، و”الرؤية النقدية لمسار الفن التشكيلي الأردني على مدار 100 عام” بمناسبة مئوية الدولة الأردنية عام 2022 بالتعاون مع المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة. من أبرز منجزاته: جدارية الدوار الثالث بجبل عمّان، نصب فني في عجلون حمل عنوان “تحليق”، كما شارك في إكسبو هانوفر بألمانيا عام 2000 بعمل إنشائي حول الإبداع وذاكرة الطفولة.