للمخرج السينمائي السوري: محمد ملص.فيلم بعنوان:حلب. مقامات المسرّة”: موطن شيوخ الطرب والموسيقى.منهم الفنان”أنا صبري مدلل مُدخل السرور إلى قلوب الناس”.

حلب… مقامات المسرّة”: موطن شيوخ الطرب والموسيقى
سمر شمة 
آخر شيوخ الطرب في عاصمة الغناء مدينة حلب السورية، ومن أبرز مغنّي الموشحات بلونيها الديني والدنيوي، وأشهر مؤذّنيها، ومن أهم الذين مزجوا متعة الغناء بروح الدين الإسلامي، كان “نيّر القلب، وروحاني الفكر، ورباني الروح، وسماوي الهمة”. عندما يغني يتحوّل جسده إلى نغم وموسيقى، بعد خلطه الفريد بين الموسيقى الروحانية والفن الأصيل، وهو كما يقول: “أنا صبري مدلل مُدخل السرور إلى قلوب الناس”. وقد عرض النادي السينمائي المستقل بجرمانا بريف دمشق فيلمًا وثائقيًا عنه مؤخرًا للمخرج السينمائي محمد ملص بعنوان: “حلب… مقامات المسرّة” الذي أُنجز في 1997. يحكي سيرة حياته ويلتقط تفاصيل شخصيته وإنجازاته الفنية في مرحلة متأخرة من عمره بعد أن تجاوز الثمانين، ويحكي عن فرقة “تراث” التي أسّسها كتخت شرقي واستطاعت الحفاظ على الأداء والغناء كما كان سائدًا في الماضي بأصالته ونقائه.
بعد أحاديث تمهيدية لكل من الممثل عمر حجو والملحن محمد رجب الذي اشتُهر بالحفاظ على التراث الغنائي الحلبي، يبدأ ملص في حوار غنيّ مع الفنان الراحل مدلل، عن مراحل حياته وفنه والعلاقة الفريدة بينه وبين الأداء العذب المختلف، ابتداءً من رفع الآذان إلى الأناشيد الدينية وصولًا إلى الغناء والموشحات، وعن والده الذي سافر إلى مكة لأداء فريضة الحج، وهناك دعا الله لأن يرزقه عشرة أبناء بأصوات جميلة، إلا أنه لم يُرزق إلا بطفلين أحدهما توفي ولم يعش إلا صبري الذي اتضحت موهبته بقوة منذ سن مبكرة وخاصة عندما اعتلى المئذنة للآذان.في الفيلم يروي الفنان الراحل علاقته بإذاعة حلب، وعمله فيها في الخمسينيات، وتفرغه للحفلات الدينية، وزيارته للكنائس، وحرصه على الاستماع بشغف وحب واحترام للتراتيل الدينية. ويتوقف عند لقائه مع الموسيقار والملحن السوري نوري إسكندر السرياني الذي عُرف بأعماله المهمة عن الموسيقى الكنسية السريانية، والذي سعى إلى خلق حوار موسيقي فكري استمده من التراث السوري والعربي، واشتغل على الموسيقى الشرقية وبحث في جذورها وجمعها ونقلها من تراث شفوي إلى مدونات. وكان أحد أعمدة الموسيقى السورية السريانية وشخصية استثنائية جمعت بين الإبداع الفني والتوثيق الأكاديمي للتراث الموسيقي الشرقي.تحدث مدلل في الفيلم أيضًا عن بعض أغنياته: “ابعتلي جواب وطمني”، وهي في الأصل له وغناها الكثير من المطربين بعده، وقد اشترى لحنها من الشيخ بكري الكردي، الملحن والمنشد والمطرب المعروف. وأغنية: “يوم ترجعلي تاني”. وتناول تفاصيل من سيرة أصول الغناء التي نشأ عليها وعاشتها حلب وحافظت عليها عبر العصور. وربط ألحانه وغناءه بالمدرسة الحلبية التي تعتبر إحدى المدارس الأساسية في الموسيقى الشرقية، والتي تأسست على قواعد الإنشاد الديني وأعاد إحياءها عدد من المعلمين أمثال الشيخ علي الدرويش، وعمر البطش الملحن والعبقري الخالد الذي تتلمذ مدلل على يديه، وبكري الكردي.تخللت الفيلم أيضًا مقاطع من الطرب الشرقي الحلبي وأغنيات بصوت مدلل مثل: “ابعتلي جواب” و”يا عاقد الحاجبين”. وتحدث أيضًا عن فرقة “تراث” الحلبية والتي تُعتبر من أعرق الفرق السورية التي تؤدي الغناء التراثي بشكله التقليدي وأصوله في الالتزام والارتجال، والتي شاركت أيضًا في العديد من المهرجانات والتظاهرات العربية والعالمية والمحلية، وأحيت حفلات في فرنسا – ألمانيا – بريطانيا – سويسرا – تونس – بيروت – مصر وغيرها.كان صبري مدلل أول من أدخل الإيقاع والدف على الإنشاد، ويُعتبر هذا الفيلم الذي انتهى بصوته وغنائه البديع وثيقة سمعية بصرية يمكن العودة إليها في كل وقت للإطلالة على العالم الإنشادي والغنائي الذي حققه الفنان الراحل على مدى عقود، وبات جزءًا أساسيًا من تراث حلب الغنائي وجوهر الفن الأصيل. وفيه نتابع الحالة الفنية الخاصة “بالحلبية” وما شكّلته من تراكمات، ونتعرف على الكثير من جمال الحارات القديمة، والبيوت العربية العتيقة، وعلى بعض أعلام هذه المدينة وأصواتهم وفنهم وسهراتهم مع “السمّيعة” محبي الطرب الأصيل.لجأ المخرج محمد ملص في فيلمه الوثائقي إلى الصورة الواضحة والدقيقة للحديث عن الصوت، ودارت كاميرته لتسجل لوحات فنية عن حلب والغناء فيها وكل التفاصيل، وركّز أيضًا على ملامح الوجوه والعيون التي كانت تحكي وتعبّر عن أعمق المشاعر وأكثرها دفئًا، ولكن يؤخذ على الفيلم الإيقاع البطيء وعدم إعطاء بعض الفنانين حقهم كالموسيقي نوري إسكندر.

لجأ المخرج محمد ملص في فيلمه الوثائقي إلى الصورة الواضحة والدقيقة للحديث عن الصوت

صبري المدلّلاسمه الحقيقي محمد ابن أحمد المدلل، أعطى لنفسه اسم صبري بعد احترافه الغناء حبًا بالملحن والشاعر المصري أحمد صبري النجريدي، وبألحانه التي قدمها للسيدة أم كلثوم. وُلد بمدينة حلب في 1918 وتوفي في 2006، واكتشف والده موهبته وصوته العذب من خلال قراءة القرآن لدى شيخ الكتّاب، ثم من خلال إنشاده بعض التواشيح في حلقة الذكر وهو لم يتجاوز السادسة من عمره.
“الموسيقى في حلب ليست مجرد فن فقط، بل هي جزء متجذر في تفاصيل الحياة اليومية لأهلها وزوارها كما قلعة هذه المدينة وأسواقها القديمة وكنائسها وجوامعه”
تتلمذ كما ذكرنا آنفًا على يد الموسيقار عمر البطش، الذي رعاه منذ كان في الثانية عشرة من عمره، وقاده إلى طريق الفن السليم التي تابع فيها باجتهاد وتفوق إلى أن أصبح نجمًا وعلمًا من أعلام الفن والغناء والموسيقى.في عام 1949 دخل إذاعة حلب مع المجوّدين من المطربين، فغنى على الهواء من ألحان بكري الكردي أغنيتين للشاعر حسام الخطيب، ثم أنشأ فرقة للإنشاد الديني واختص بهذا النوع من الغناء، وكانت هذه الفرقة تحيي الحفلات الدينية وحفلات الطرب وحفلات المولد النبوي في عدة جوامع بحلب، وفي جامع “الكلتاوية” تعرف على الباحث البلجيكي كريستيان بوخه، الذي سجل لهذه الفرقة أسطوانتها “مؤذنو حلب”. وفي عام 1975 نُظمت لهم حفلة في قصر الثقافة بباريس، وكان ذلك فاتحة عهد جديد للإنشاد الديني في أوروبا، ثم دُعيت الفرقة لمهرجان الموسيقى العربية، فأثبتت أهميتها وقدراتها الكبيرة وأهمية صبري مدلل كقائد لها حافظ خلال مسيرته على ما ورثه من أساليب الغناء والأداء والانتقاء، ولم يخرج عن الجمل الموسيقية القديمة، ولم يتصرف فيها إلا في حدود الجماليات وما يتناسب وإمكانياته الصوتية العالية، وهذا ما انعكس إيجابيًا على ألحانه التي تجاوزت الأربعين لحنًا وغالبيتها ألحان دينية منها: “يا نبي سلام عليك – راحت الأطيار تشدو – حيّوا الهادي بذكرى الإسراء – أحمد يا حبيبي سلام عليك”.استلهم آخر شيوخ الطرب ما خزنته الذاكرة من أعمال سيد درويش ورياض القصبجي ومحمد عبد الوهاب وزكريا أحمد وداود حسني في نتاجه الفني، فأعطى ألوانًا جميلة جديدة للإنشاد الديني لم يسبقه إليها أحد. ودخل مجال الغناء الصوفي من أوسع أبوابه فغنى ولحن الكثير من أعمال المتصوفة مثل ابن الفارض، وكانت ألحانه تُصيب السامعين بنفحة صوفية روحية قوية، تأسرهم لساعات بعد سماعها بصوته، وهذا ما حصل في فرنسا عندما دُعي إليها للمرة الأولى، ثم في مهرجان التراث العربي بباريس للمرة الثانية وكان آنذاك في الثمانينات من عمره، وشكلت هذه المشاركات منعطفًا مهمًا في حياته، إذ خرج صوته إلى العالم بأسره بآلاف النسخ من التسجيلات.كُتب عنه الكثير: شيخ الغناء المحلي والعربي، والفنان الذي له الفضل الكبير في إحياء التراث الفني والموسيقي الحلبي والعربي، والفنان الذي تألقت على يديه الموشحات والقدود والمواويل بأدائه الأخّاذ وصوته الذي لا يشبه صوت أحد. أما الروائي والصحافي المصري جمال الغيطاني فقد قال عنه ذات يوم: “أحن إلى صبري مدلل فأجلس لرؤيته والاستمتاع بصوته وقدرته الرائعة على أداء الأدوار الصعبة، وإضفاء شخصيته الخاصة عليها. إنه حامل تراث طويل. وخلوّ العالم منه مسّ مني وترًا وبثّ في روحي شجنًا”.أما “شاعر السينما العربية” محمد ملص- كما وصفوه- فقد قال: “صبري مدلل كان في الذهن دائمًا. سواء في الإيحاءات المتبادلة بيننا. أو في توقّفي الشخصي عنده كمتذوق للغناء العربي الكلاسيكي. ولإحساس عام كان لديّ حول علاقة حلب بالغناء والطرب”. وعن الفيلم قال: “إنه ككل مشروع وثائقي يعتمد صفة البورتريه. كان التصوير معه مليئًا وغنيًا بالإضافات”.الجدير ذكره أن المدرسة الحلبية في الغناء والموسيقى هي تراث فني غني اشتُهر بالقدود وقوالب غنائية تعتمد على ألحان شعبية ودينية متوارثة، تنوعت بين الطابع الديني والروحاني والغزلي، ويعود تأسيسها لقرون مضت، وهي جزء مهم من التراث الثقافي السوري، وقد سُجلت القدود الحلبية ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، والتي تميزت بالإيقاع والوزن الثابت والرقة والروحانية، ومن أعلامها: أبو خليل القباني – عمر البطش – صبري مدلل – الشيخ أمين الجندي – صباح فخري.والموسيقى في حلب ليست مجرد فن فقط، بل هي أيضًا جزء متجذر في تفاصيل الحياة اليومية لأهلها وزوارها كما قلعة هذه المدينة وأسواقها القديمة وكنائسها وجوامعها، وكما كل ركن فيها.
مراجع:
 كتاب الفنون الموسيقية الحلبية.
 بوابة سينما.
 مواقع إلكترونية.

أخر المقالات

منكم وإليكم